قائمة الموقع

مقال: الهجرة النبوية ... دلالات وابعاد نفسية واجتماعية

2013-11-06T07:52:59+02:00
هشام محمود المدلل
بقلم: أ. هشام محمود المدلل

نستقبل عاما هجريا جديدا والأمة الإسلامية تعيش حالة من الضعف والهوان, والتشرذم والخذلان, فأينما تول وجهك فثم القتل والتشريد والدمار, وثم الضعف والفرقة والخوار, فالأمة تعيش اشبه ما يكون بهزيمة نفسية, فقواها خائرة وطاقاتها مهدورة ومقوماتها معطلة, والمسلمون يعيشون غربة نفسية في مجتمعاتهم الاسلامية التي غلبت عليها الماديات وغزتها ثقافات دخيلة غيرت عاداتها وزعزعت قيمها وشوهت افكارها وبدلت مفاهيمها, وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "بدأ الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء". وفي خضم هذا الواقع المؤلم الذي تعيشه الامة تحل علينا ذكرى الهجرة النبوية لنستلهم منها العبر والدروس والفوائد والثمرات وذلك باستحضار معانيها ودلالاتها، وتحليل نفسية الهجرة وفلسفتها؛ كي نعي وندرك منها بعضا من سبل الخلاص لأنفسنا وأمتنا العزيزة.

لم تكن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم انتقالا ماديا من مكان إلى مكان فحسب، ولكن أيضا انتقالا معنويا من حال إلى حال، انتقال من حال الضعف إلى القوة، ومن القلة إلى الكثرة، ومن الفرقة إلى الوحدة، ومن الخوف إلى الأمن والاستقرار، ومن القيد إلى الحركة ومن الكبت الى اطلاق الطاقات ومن الاحباط والياس الى الامل والعمل ومن التضييق الى السعة والبناء. ولا شك أن هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة كانت مبعث سعادة نفسية كبرى لهم، لأنهم تنفسوا الصعداء، وشعروا بالحرية التي لم يكونوا يألفونها، وأخذوا يعبدون الله وينشرون دينه في جو بعيد عن الضغط والإرهاب والظلم والعدوان.

وهناك نوعان من الهجرة, هجرة مكانية جغرافية, وهجرة نفسية شعورية تتمثل في تزكية النفس وذلك بهجرة المعاصي واجتناب النواهي, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"، فالهجرة النفسية هي انتقال بالنفس الإنسانية من النفس الأمارة بالسوء إلى النفس اللوامة ثم إلى النفس المطمئنة.

من دلالات الهجرة النبوية انها كانت دليلا على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم فبينما هو في الغار والمشركون على مسافة خطوات منه يتربصون به وقد عزموا على قتله، اذ به صلى الله عليه وسلم يقول لابي بكر رضي الله عنه: لَا تَحْزَنْ. قال تعالى: (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا), فعلماء النفس يؤكدون ان مظاهر الكذب والشخصية المزيفة والأفكار المصطنعة لا تصمد طويلا بل تنهار في المواقف الصعبة. لقد حزن أبا بكر على صاحبه رسول الله، وظهر الحزن على وجهه، والمستهدف هو النبي وهو الذي ينبغي أن يحزن في مثل هذا الموقف الصعب وهذا دليلا اخر على صدق نبوته حيث انه لم يحزن ولم يكتئب ولم يفقد الأمل وييأس، على العكس كانت ثقته كبيرة جداً بالله واعطانا درساً في قوة الإرادة والثبات وألا نحزن مهما أصابنا من مصائب، لأن الله مع المؤمنين، فالمؤمن لا يصيبه الحزن ولا الاكتئاب ولا الياس مهما كانت الظروف.

ومن الدلالات النفسية للهجرة انه ليس سهلاً على الانسان الهجرة من وطنه ومسقط راسه وترك الاموال والبنون والذكريات الجميلة, فهذا اغتراب جغرافي مكاني نشعر به نحن كشعب هجر من وطنه, ولكنه يبقى اهون على الانسان من الاغتراب النفسي في العيش في مجتمع تشعر بانك غريب عنه وهو غريب عنك, لا تستطيع اثبات ذاتك او تأكيد هويتك الاسلامية وممارسة شعائر دينك, فكانت الهجرة بمثابة توطئة نفسية وعملية تدريبية للمسلمين على مغادرة الاوطان من اجل هدف اسمى واجل وهو البحث عن الذات واثباتها وتأكيد الهوية وابرازها, فالهجرة أعطت  المسلمين الأمان النفسي ليتفرغوا لعبادة ربهم ويتقربوا منه في جو مليء بالإيمان البعيد عن الخوف والتوتر, وزادت ايضا من قوة معنويات المسلمين وزادت ثقتهم بربهم ومن ثم زادت ثقتهم بأنفسهم.

ومن ثمرات الهجرة ونتائجها النفسية التصدي للحرب النفسية التي كان يشنها المشركون ضد المسلمين لإحاطة الدعوة بجدار نفسي سميك يعزلها عن الناس ومواجهتها بأسلوب نفسي خطير وهو الاستشعار بالفراغ الذي تتركه الفئة المهاجرة في المجتمع فهو يترك هواجس بين الناس تتراوح بين الحقد على الظالم والكراهية للوضع الراهن، وبين العطف على المهاجرين والتهيؤ النفسي لقبول آرائهم وتأييد فكرتهم,  فحركت الهجرة النوازع النفسية في المجتمع للسؤال عن اسباب هجرتهم وفهم قضيتهم والتفاعل معهم, وعندما أدركت قريش هذه المعاني خافت ومنعت ما جاء بعدها من هجرات.

واضافة الى الدلالات النفسية للهجرة, هناك العديد ومن الدلالات والثمرات الاجتماعية, منها أن الهجرة ساعدت على تكافل المسلمين وإحساسهم ببعضهم البعض، وخلق روح المحبة والمؤاخاة والايثار, وهذا ما يتجسد في واقعنا اليوم من مؤازرة المسلمين لإخوانهم المشردين والمقيمين على الحدود والمهجرين من البلاد التي تفشى فيها القتل والظلم والحرب والدمار, فظهرت الرحمة بين المسلمين بتفقد احوال بعضهم بعضا, وتقديم المساعدات والعون وذلك تأسيا بالجيل الاول. بالإضافة الى ذلك عملت الهجرة النبوية على خلخلة النظام الجاهلي القرشي الاجتماعي, وهدمت تلك المرتكزات للنموذج الجاهلي القبلي وبناء نموذج لمجتمع اسلامي فريد ادى الى الاندماج والتلاقي والتلاحم الاجتماعي برغم اتساع رقعة المجتمع الاسلامي وتعدد اطيافه واختلاف الوانه والتنوع الفكري والثقافي فقد شكل المجتمع الاسلامي الاول لوحة فنية من التعايش السلمي والتناغم والانسجام الاجتماعي على اساس رابطة الاخوة الانسانية وآصرة العقيدة الاسلامية.

ان ذكرى الهجرة النبوية  مناسبة للتأمل والتدبر والوقوف مع النفس  لنستلهم منها الدروس والعبر التي تمثل املا في الخروج من هذا الواقع المؤلم والتحديات الخطيرة التي تعيشها الامة خاصة في هذا العصر الذي هو عصر القلق والاضطراب النفسي والجري وراء سراب الحياة المادية  وصولا إلى حالة من الطمأنينة والاستقرار والاتزان النفسي والسلوك السوي لتحقيق اسباب السعادة والفلاح في الدنيا والاخرة.

اخبار ذات صلة