قد يضطر المواظبون على تناول شطائر الجبنة صباحاً، أن يتخلوا عن عاداتهم قليلا خلال الأيام القادمة، فالوقائع تقول ان المرحلة المقبلة ستشهد شظفا وحصارا بالغين؛ قد يؤول الى مواجهة عسكرية.
المعطيات الحالية تشير إلى أن قطاع غزة يعيش على شفا حفرة من الانفجار سواء على المستوى العسكري، أو الاقتصادي، في واقع يشبه تماما سيناريو شتاء حربي 2008 و 2012.
مقاربة الاجواء الميدانية التي سبقت حالة الاشتباك العسكري بين فصائل المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال، تكشف تشابه الاجواء رغم اختلاف الزمان والتحولات الاقليمية.
ما شاب المدة التي سبقت الحربين من حصار وتضييق عبر المعابر، وأزمة طاحنة في ملف الكهرباء، والتسخين على الحدود وانفراط عقد التهدئة، وتشابه تلك الاحداث مع ما يجرى اليوم، يعطى دلائل واضحة على أن غزة ليست بعيدة عن شتاء قارس محمولا بالرعد لاسيما بعد كشف المقاومة عن تطوير مخزون السلاح لديها.
قدرا، يتشابه توقيت التسخين في الأراضي الفلسطينية في المراحل الثلاث (حجارة السجيل والفرقان وبوابة المجهول)، تزامنا مع أزمات طاحنة على مستوى حركة المواطنين عبر معبر رفح البري الواصل مع مصر، واغلاق الانفاق الأرضية، وازمة شح الوقود وتبعاتها الانسانية.
في التاسع عشر من يونيو/ حزيران 2008 ابرمت تهدئة مع (إسرائيل) برعاية مصرية، سقطت فعليا بعد نحو شهرين بسقوط شهداء، لكن القاهرة حاولت ترميمها سريعا عبر جهاز المخابرات العامة، وتطويق الاحداث قبل الوصول الى حالة الحرب.
بالتزامن مع التهدئة المتآكلة كانت الظروف الحياتية غاية في البؤس، فقد غرق القطاع في ظلام دامس علما انه لم يبلغ الحد الذي نحن عليه الآن بانقطاع التيار 18 ساعة يوميا، اضافة الى تضييق حركة المواطنين، وتقليص كميات الوقود الواردة من الجانب (الإسرائيلي).
في نوفمبر من نفس العام حاول الطرفان الفلسطينيان (حماس، وفتح) الدخول في حوار رعته القاهرة، لكن سرعان ما تهاوت التفاهمات على وقع الضغوط التي مارستها وزير الخارجية الامريكية السابقة "كوندليزا رايس" على رئيس السلطة محمود عباس للعزوف عن المصالحة الوطنية.
تطور دراماتيكي على المستوى الأمني، خلال تلك الفترة اعاد التصعيد الى الواجهة من جديد، وقد بات المتفحص للمشهد يتوقع انفجارا في اية لحظة بحكم رفض الفصائل للتهدئة غير المتبادلة.
آنذاك عولت (إسرائيل) على ان يسقط الحصار حركة حماس، غير أن احتفال الحركة بذكرى انطلاقتها الـ(21)، وخروج عشرات الآلاف من الجماهير للمشاركة فيه، عمل على ارباك الاحتلال. وقتئذ تخوف وزير الحرب (الإسرائيلي) ايهود باراك من تعاظم قدرات حماس العسكرية في ظل اتساع القوة الجماهيرية للحركة، فأوعز الى قادة الجيش بضرورة اعداد خطط لمواجهة غزة بهدف اسقاط حركة حماس.
وفي العشرين من ديسمبر 2012 نقلت صحيفة معاريف العبرية، عن مصادر قيادية في جيش الاحتلال قولها إن الجيش اعد خططا ابسطها سيؤدي الى مقتل 800 فلسطيني بريء.
تزامن ذلك مع توقف شبه تام لمخابز قطاع غزة، اعطى مؤشرا الى أن تدحرج الازمة لن يقف إلا عند حدود الحرب، وبالفعل انتهى المطاف بحرب أسفرت عن نحو 1200 شهيد.
حينها كانت الدلائل تؤكد أن الضوء الاخضر لقرار الحرب اعطي في القاهرة خلال اجتماع لوزير الخارجية (الإسرائيلي) "تسبي ليفني" مع الرئيس المخلوع حسني مبارك. وهذا يتشابه الى حد بعيد اليوم بحالة الوئام القائمة بين القاهرة و(تل أبيب) في أعقاب عزل المجلس العسكري للرئيس محمد مرسي.
وأشارت تقارير (إسرائيلية) تلت الحرب إلى أن (تل أبيب) تعمدت خداع حماس، حيث قامت بفتح المعابر وأدخلت 428 ألف لتر من الغاز الصناعي ونحو 75 طناً من غاز الطبخ بالإضافة إلى 105 شاحنات إغاثة قبل يوم واحد من الحرب التي اسمتها (إسرائيل) (الرصاص المصبوب).
ذات المشهد تكرر خلال الفترة التي سبقت حرب 2012، وقد كانت الحدود تشهد توترا غير مسبوق، علما أن التهدئة اعيد تجديدها في يونيو/ حزيران من نفس العام، أي قبل ستة أشهر من اندلاع حرب (عامود السحاب).
في تلك الأثناء تعرض القطاع الى تضييق شديد على الجانب المصري، علما أن الرئيس المعزول محمد مرسي، رغم الحميمية القائمة بين غزة ومصر بحكم تولي الإخوان مقاليد الحكم عقب ثورة 25 يناير 2010.
وكان قد طمئن "مرسي" آنذاك "حماس" خلال لقاء جمعه برئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل بأن التضييق على غزة عرضي وأن الاوضاع ستعود لطبيعتها.
قلق (إسرائيل) من تقاطع العلاقة بين غزة ومصر، جعلها تلقي بالونات اختبار في المحيط الاقليمي، عبر قصف مناطق متفرقة من قطاع غزة وتحديدا في اغسطس 2012، وقد فسر المحللون السياسيون الضربات آنذاك بأنها محاولة لترميم قوة الردع (الإسرائيلية).
في اكتوبر وجهت غزة رسالة الى القيادة المصرية مفادها "اني اغرق"، بعد تدمير نحو 150 نفقا، لكن الرئيس الإخواني لم يكن قادرا على فعل شيء في ظل المناكفة القائمة من اتباع الحزب الوطني المخلوع.
بعد أيام قليلة فقط، زار الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أمير دولة قطر السابق قطاع غزة، وقد ضخ فيها مشاريع حيوية بقيمة 440 مليون دولار، لإعادة اعمار القطاع على اثر حرب 2008، غير أن الاجواء عادت للتأجج من جديد باتجاه الاحتلال، حتى اطلقت (إسرائيل) رصاص الرحمة على التهدئة باغتيالها قائد كتائب القسام احمد الجعبري.
لابد من الاشارة إلى أن حماس في ذلك الوقت كانت اعادة تشكيل خريطة علاقتها على المستوى الاقليمي عبر تحالف شمل كل من مصر، وقطر، وتركيا. وهو ما ساعد في اخماد جذوة الحرب بعد ثمانية ايام متواصلة، على اثر الدور الذي لعبته الدول الحليفة.
الآن وفي ضوء المتغيرات التي طرأت على المشهد الإقليمي خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع مصر، تبدو الأوضاع أكثر تعقيدا. يتزامن ذلك مع عودة غزة الى مربع الحصار الأول عبر تفاقم أزمة الكهرباء على نحو غير مسبوق، واغلاق كامل للأنفاق وعرقلة حركة المسافرين على معبر رفح، اضافة الى شح الوقود، وتسخين شديد على الحدود.
هذا بطبيعته ينبئ بأن احتمالات التصعيد العسكري واردة في اية لحظة، وبخاصة إذا ما اخذت بالحسبان سلسلة التهديدات (الإسرائيلية) المتعلقة بمزاعم تطور قدرات المقاومة العسكرية في غزة وامتلاك صواريخ بعيدة المدى، غير أن التقديرات العسكرية هي التي تحكم الميدان في نهاية المطاف.
وتثير (إسرائيل) ضجة كبيرة حول ما يعرف بـ"الانفاق الارضية" التي حفرتها المقاومة على حدود غزة، حيث كشفت نفقا يمتد بطول 2 كيلو متر داخل اراضيها الشهر الماضي، اسمته المقاومة (بوابة المجهول)، فيما ينظر له الاحتلال على انه يعكس استراتيجية جديدة في المواجهة ويتطلب مزيدا من الحزم في التعامل مع القطاع.
عموما، إذا تشابهت الظروف في المراحل الثالثة، فإن ما يميز المرحلة الحالية أن قرع طبول الحرب في هذه المرحلة قد يبدأ من غزة، على اعتبار أن القطاع لا يحتمل مزيدا من الترف في محاولة كسر العتمة، لذا فإن (إسرائيل) تتجهز لـ(عض الاصابع).