بينما يودع العالم نيلسون مانديلا, ويعدد الإعلام مناقب الرجل الذي انتصر في معركة الحرية والكرامة, وأصبح رمزا تاريخيا للمقاومة ضد الظلم والتفرقة العنصرية, لا يزال مانديلا المناضل, المقاتل, المحاصر, السجين, يعيش في كل شارع من شوارع الوطن في كل زقاق وبيت فلسطيني, ومن لا يصدق يستطيع أن يتأمل الوجوه, ليكتشف أن لدينا في غزة -على سبيل المثال- عشرات الآلاف من مانديلا.
وأمام تمجيد زعماء ودول ومنظمات دولية لسيرة وممات مانديلا, فإن حصارهم وعداءهم وعنصريتهم ضد شعبنا, تكشف مدى نفاقهم وزيف الدموع التي يذرفوها على الراحل الذي كان ضمن قائمة مراقبة الإرهاب الأمريكية حتى عام 2008, فلم يكن بمقدور مانديلا وأعضاء آخرين في قيادة الحزب المؤتمر الأفريقي قبل ذلك التاريخ زيارة الولايات المتحدة دون ترخيص خاص من وزير الخارجية.
الرؤساء الذين سيقفون عند رأسه خلال تشييع ووداع الرئيس السابق لجنوب افريقيا, عليهم ان يتذكروا انه قبل أن يكون رئيسا كان مقاتلا من أجل الحرية, فقد أنشأ عام 1961 منظمة عسكرية تابعة للمؤتمر الوطني الأفريقي لمقاومة التمييز العنصري بالقوة. وفي عام 1962 زج الحاكم الأبيض به في السجن وكان عمره حينذاك 43 عاما وقد أطلقت سلطات جنوب أفريقيا سراحه بعد أن أصبح عجوزا في الحادية والسبعين من عمره في عام 1990.
وفي حياته كما في مماته لن يفهم هؤلاء المتربعون على العرش والسلطة, معنى الحرية التي يعنيها هذا الرئيس الأسود, فقد انتهت ولايته الرئاسية في عام 1999 ولم يتشبث بالحكم, فالحرية هنا بالنسبة له تعني ألا يبقى عبدا للمنصب وشهوة السلطة.
ورغم شيخوخته إلا أن مهمته التي أوكله إياها التاريخ كانت قد بدأت لتوها, وواصل خدمة قضيته وشعبه على حساب حياته الشخصية لهذا كان يقول: "يبدو أن قدر المحاربين من أجل الحرية ألا ينعموا باستقرار في حياتهم الشخصية أن تكون بمثابة الأب لدولة شرف كبير، لكن أن تكون الأب في أسرة فهذا مدعاة سعادة غامرة." ويضيف: "ربما لم أراع أشياء محددة بسبب الألم الذي شعرت به لعجزي عن أداء دوري كزوج مع زوجته وأب مع بنيه."
فكم من مانديلا لدينا يعجز عن رؤية أبنائه, وكم منهم يقبع في العتمة, وكم من غول عنصري يطاردنا, هنا من يستحقون التمجيد أيضا, هنا كلنا مانديلا, ومن هنا نغني أبيات الشاعر السوداني محمد الفيتوري:
سـاكـن أبـداً فـي طـقوسك
مـــثــل إلاه قـــديــم
يُـرصـعه ذهــب الـشـمس
يـا أَبـنُوس الـخريف الجنوبي
كــيـف جــلال الـشـهادة
إن لـــم تــكُـن أنـــت!
تــولـد في الــمـوت
تـكـبـر في الــمـوت
تطلع حقل نجوم على حائط الموت
تُـصـبح أوسـمةً مـن بُـروقٍ
وعـاصـفـةَ مـــن غـنـاء
وغـاباً عـظيماً مـن الـرقص
أذهـلـتـني فــي نـضـالك
تـدمـغ أعـناق مـن دمـغوك
وتـسجن في العصر من سجنوك
وأنـــت سـجـين هـنـالك
أغـرقـتـني في اكـتـمالك
مــــانـــديـــلـــلا
مــــانـــديـــلـــلا