التقيته في موقف السيارات, تذكرته بعد أن عرفني بنفسه, لأنه حالة فريدة ومميزة.. انه ذاكرة الانتفاضة وارشيف الشهداء.
الشاب طارق درويش من مخيم المغازي أو "عاشق الشهداء" كما يسمونه في المخيم, يتمتع بذاكرة تمكنه من حفظ أسماء وتواريخ الشهداء باليوم والشهر والسنة.
قال لي مبتسما: اذكر لي اسم أي شهيد لأعطيك بيانات استشهاده.. اسعفتني ذاكرتي باسم احد الشهداء, وبسرعة رد طارق : "تاريخ استشهاده, مكان سكنه, وملابسات الحادثة, من ارتقوا معه في نفس المكان واليوم من الشهداء".
ثم سألني معاتبا: لماذا توقفتم عن نشر قصص الشهداء؟ بدا كأنه التمس لي عذرا عندما أجبته: "لم يعد لدينا كل يوم شهداء كما في سنوات انتفاضة الاقصى", لكنه شدد على أنه يريد ان تبقى ذاكرة كل فلسطيني كذاكرته, حاضرة بسير الشهداء.
ورغم أن طارق ترك المدرسة وهو في الثانية عشرة من عمره لتدني مستواه التعليمي، "الا ان الله عوضه بذاكرة قوية مكنته من حفظ معلومات عن أكثر من 1000 شهيد ممن سقطوا خلال انتفاضة الأقصى.
في المقابل تنسج خيوط المال والاعمال, المناصب والرواتب, بيتا كبيت العنكبوت على ذاكرة النخب والفطاحل والساسة, تجعل ذاكرتهم تعاني من "زهايمر وطني".
أكثر من ذلك.. تتعرض ذاكرتنا الجمعية لغزو فيروسي يجعلها مشغولة عن قضايانا الوطنية المصيرية, فيروسات من نوع الكهرباء, المياه, المواصلات, الوقود, الحصار, الرواتب, المصالحة, الانقسام, وكلها تطبيقات لهموم يومية باتت تسيطر على مساحات واسعة من ذاكرتنا, ومع مرور الوقت واشتداد الازمات, تبدو ذاكرتنا الوطنية مهددة بالتلف اذا لم نواجه هذا الهجوم بمضادات تعتمد على ثقافة المقاومة والغضب والانتفاض.
وهذا ما فعله طارق للحفاظ على ذاكرته المرتبطة بالشهداء, فقد تمكن من جمع أكثر من 700 صورة وضعها في ألبوم مرتبة حسب التنظيم السياسي الذي ينتمي إليه كل شهيد .
ولا يزال يدفعه حبه وولعه بالشهداء الحرص على المشاركة في مراسم تشييع جثامينهم في شتى مناطق قطاع غزة، ولكي يحافظ على صلابة ذاكرته يتابع تفاصيل قصص الشهداء, ويحرص على زيارة قبورهم ومواساة ذويهم الذين تربطه مع عدد كبير منهم علاقات حميمة.
ذاكرة طارق تستفزنا في أن نفكر في الغد, والبحث في مستقبلنا من خلال سؤال المواطن البسيط: وبعدين؟
انه نفس السؤال الذي يطرحه المفكر العربي عزمي بشارة ويقدمه في جواب تضمنته محاضرته في مؤتمر:" المشروع الوطني الفلسطيني: أفكار وأسئلة حول المأزق والآفاق".
يقول بشارة: لا بد من العودة إلى التفكير في مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني على ضوء المتغيرات التالية: مأزق المفاوضات، ومأزق الكفاح المسلح، وانشغال العالم العربي لمرحلة غير قصيرة، بالثورة والثورة المضادة حتى تستقر الأمور إلى ديمقراطيات عربية نامية كما نأمل.