ينبغي أن نعترف بأن التونسيين نجحوا فيما فشل فيه المصريون، ذلك أنه في الوقت الذي توافقوا فيه على دستور ثورتهم ومنحوا ثقتهم لحكومة مستقلين جديدة، فإن مصر كانت خارجة لتوها من صدمة الذكرى الثالثة للثورة.. بعدما قتل في المناسبة تسعون مصريا، وأصيب 277 واعتقل 1341، حسب التوثيق الذي أوردته المصادر المستقلة.
وإذ حلت ذكرى الثورة المصرية يوم 25 يناير، وأقر التونسيون دستورهم يوم 26، في اليوم التالي مباشرة، فإننا في مصر نكون قد أمضينا السنوات الثلاث (منذ عام 2011) في صراعات أفضت بنا إلى مجهول تثار حوله العديد من علامات الاستفهام، أما هم فقد تجاوزوا عنق الزجاجة، وعرفوا إلى أين هم ذاهبون.
بكلام آخر، فقد توفر لنا دستور مشكوك في نسبه السياسي، وضعته مجموعة اختارتها السلطة، ولم ينتخبها الشعب، ثم إننا مقبلون على انتخابات رئاسية في أجواء تخيم عليها المخاوف والغيوم، فضمانات الحريات العامة محل شك في ظل تصاعد مؤشرات هيمنة المؤسسة الأمنية وعسكرة المجتمع، فضلا عن علامات الاستفهام المثارة حول رؤية المستقبل لمجتمع منقسم يعانى من الفراغ السياسي ويعلق كل أمله على «المخلِّص المنتظر».
ولا تفوتنا هنا ملاحظة أن القرار السياسي في تونس بعد الثورة صنعه المجتمع المدني ممثلا في أحزابه ونقاباته ومؤسساته المنتخبة.. أما في مصر فالقرار السياسي بعد الثورة لا يزال رهين المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية، وإذا كان الانقسام سمة للواقع الراهن في مصر، فإن الانسجام النسبي صار سمة للنخبة التونسية، على الأقل من حيث إنها نجحت في التوافق على الحد الأدنى الذي مكنهم من الاتفاق على الدستور وعلى تسمية رئيس الحكومة وعلى منح الوزارة الجديدة ثقة المجلس التأسيسي.
لا أزعم أن النخبة التونسية اتفقت على كل شيء، ولا أقول إن الخلافات تم تذويبها بين الأحزاب والمؤسسات المدنية، ولا أقول إن طريق تونس نحو المستقبل صار ممهدا ومفروشا بالورود، لأن العكس هو الصحيح في كل ما سبق، لكن العبقرية التونسية تمثلت في قدرة النخبة على إدارة خلافاتها، أولا حين قررت أن تحتكم إلى الحوار في التعاطي مع قضاياها الخلافية، وثانيا حين توافق الجميع على أن الأهم أن تكسب تونس، ويتقدم المسار الديمقراطي، ولا يهم بعد ذلك من خسر أو كسب من القوى السياسية.
وهذه العبارة الأخيرة اقتبستها من تصريح للشيخ راشد الغنوشي- رئيس حزب النهضة صاحب الأغلبية البرلمانية، قال فيه إن ما قدمته النهضة من تنازلات في الحوار ينبغي ألا يعد هزيمة لها.
إذ طالما أن تونس هي الرابحة فإن الحركة تظل ماضية في الاتجاه الصحيح، إذا خسرت الحركة السلطة (بعد استقالة حكومتها)، فإنها تستطيع أن تعود إليها في أي وقت، أما إذا خسرنا أمن تونس واستقرارها فإن ذلك مما يتعذر تعويضه.
ما تم من إنجازات حتى الآن لم يكن أمرا سهلا، إذ سبقته مشاحنات واتهامات وانسحابات من المجلس التأسيسي وتظاهرات في الشوارع، شأن أي ولادة متعسرة، لكن المهم أن الولادة تمت، وأن محاولات الإجهاض فشلت، وكان السبب الأساسي في ذلك أن العقلاء تحدثوا مع بعضهم البعض، وأنهم جلسوا على الطاولات يتفاهمون طوال خمسة أشهر تقريبا.
وإذ بدأت المناقشات باتهام الأغلبية الممثلة في حركة النهضة بتقديم «دستور إسلامي»، الأمر الذي كان محلا للتجاذب والاتهام من قبل تيار الحداثة وزعامات اليسار، فإن الحوار والتنازلات المتبادلة مكنت العقلاء من التوافق حول صيغة وصفها الذين أطلقوا الاتهامات في البداية بأنها تقدم للوطن العربي أول «دستور تقدمي» في تاريخه المعاصر.
وهذا الكلام لم يخرج من قادة حركة النهضة، ولكن تحدث به رموز التيار العلماني واليسار الشيوعي وغير الشيوعي.
للدقة، فإن الإنجاز أسهمت فيه عوامل أخرى، إلى جانب نضج السياسيين التونسيين وحكمتهم، حيث لم يعد سرَّا مثلا، أن ضغوطا أوروبية تحديدا، إضافة إلى وساطة جزائرية مورست لإقناع الأطراف المختلفة بضرورة التوافق وتبادل التنازل، ولا ينكر في هذا الصدد أن ما جرى في مصر كانت له أصداؤه القوية لدى الطرفين، الذين يريدون إجهاض الثورة والذين يسعون لاتجاهها.
فالأولون استلهموا من مصر فكرة «جبهة الإنقاذ»، وحاولوا استنساخها كما اقتبسوا فكرة حركة «تمرد» وسعوا إلى تفعيلها، وثمة شائعات ترددت حول تبادل «للخبرات» بين المنخرطين في الحركة في البلدين، وأن الفريق المصري استضاف لهذا الغرض نظراءهم في تونس، وأمضى الفريقان أسبوعا في فندق على أحد الشواطئ المصرية، وهو ما تم بتمويل تكفلت به إحدى الدول الخليجية، وفي الوقت الذي فشلت فيه محاولات الإجهاض، فإن النخبة السياسية النشطة في المجال العام رأت من تفاعلات النموذج المصري أن الثورة في خطر، وأن تفاقم الخلافات يفتح الباب واسعا لتقدم الثورة المضادة واستعادة الأوضاع التي انقلبت عليها الثورة.
ومن ثم إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، وهو ما شكل عنصرا ضاغطا على القوى السياسية أقنعها بأنها إذا لم تتوصل إلى اتفاق، فإن المسار الديمقراطي ومصير الثورة كله يصبح في مهب الريح، وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن ما بدا معاناة وعسرا في مصر كان له إسهامه في اليسر الذي حل بتونس، وأن "مثالب قوم عند قوم فوائد.
لقد توجه كثيرون بالتهنئة لتونس على ما أنجزته، وهو ما أضم صوتي إليه رغم ما أحاول إخفاءه من شعور بالغيرة والحسد !