خلال جولة صحفية في قطاع غزة ظهر لنا هذا الشريط الصغير ممددا بين ديناصورات وحيتان من الكيانات السياسية, ورغم ذلك حافظ على جماله بلونيه اللذين يزينان جانبيه: الأخضر شرقا, والأزرق غربا, سهلا بمعايير الطبيعة الجغرافية, ممتنعا من حيث طبيعة السكان.
ولفهم معنى ممانعة أهل هذا السهل الساحلي, قادتنا الصدفة خلال الجولة الى منطقة محررات خان يونس, حيث لفت انتباهنا تجمع للجمهور بدوا وكأنهم متفرجون على مدرجات ملعب كرة قدم في انتظار متابعة نهائي حاسم, أو حفلة ترفيهية, خصوصا أن الجمهور ضم الأطفال والنساء.
دفعنا الفضول لمتابعة الحفلة الترفيهية أو المباراة, حيث يتحلق الناس فوق تلة رملية من الذهب الأصفر, ثم كانت المفاجأة..
أما المكان فلم يكن ملعب كرة قدم, أو مسرحا, بل موقع عسكري تابع لكتائب القسام, يضم مساحة للتدريبات والمناورات العسكرية تحاكي مباني مستوطنة.
والمشهد المرتقب, مشروع تخرج دفعة من مقاتلي القسام, سيؤدون استعراضا عسكريا, بالرصاص الحي, شبيه بالمناورة العسكرية.
كانت الاستعدادات تجري بهدوء وصمت في الميدان أسفل تلة رملية, شكلت مدرجا لجمهور حضر دون دعوة, سوى معرفتهم بموعد الاستعراض, بعضهم من ذوي الخريجين. مكان الموقع العسكري مفتوح, يستطيع أي مار أن يشاهد مناورات أصبحت روتينا أسبوعيا يألفه السكان القريبون من المحررات.
دقائق حتى اخترق دوي انفجار ضخم صمت المكان, واندفع البعض ممن لم يعتد المشهد متراجعا, ومتقهقرا للخلف, بينما تفاعل فتيان وشبان من المتفرجين, والجميع يتابع بتركيز عال مثل قادة عسكريين يشرفون على مناورة عسكرية.
تصاعد الدخان من ساحة المعركة الافتراضية, بينما دوى أزيز الرصاص حول المقاتلين الذي كانوا ينفذون عمليات اقتحام للمباني, فيما توالت انفجارات عبوات صوتية في ساحة معركة شبه حقيقية.
المهم, بيت القصيد ليس الاستعراض العسكري, بل شريحة مواطنين لديهم من الممانعة والمناعة ما يخالف نظريات علم الاجتماع, وعلم النفس, خصوصا اتجاه سلوك الخوف والإحباط.
هنا الناس تأنس بصوت الرصاص والانفجارات الناجمة عن عمليات التدريب, تأتي متفرجة رغم الخطورة, ولا يقتصر الأمر على الشباب المغامر بطبعه, بل تشارك نساء وأطفال كأنهم في نزهة, متحفزون كما لو أنهم يتابعون فيلما سينمائيا مثيرا.
أي ضيف أو وافد من خارج القطاع يتواجد في المكان لن يستطيع استيعاب طبيعة هؤلاء المحتشدين حول الرصاص والانفجارات, ولن يكون من السهل اكتشاف نمط تفكيرهم, وكيف نمت فيهم مضادات الخوف.
ببساطة, هم سبقوا المنطقة كلها في معرفة أسرار الخوف, وسبل مواجهتها في نفوسهم, ثم تراكمت لديهم تجربة وخبرات خلال عقود من المواجهة مع الاحتلال والعدو, أي عدو يهددهم ويفكر في كسرهم.
هنا النساء والأطفال قبل الرجال, يؤمنون بأن امتلاك القوة مهما كانت متواضعة من أساسيات حياتهم, ويرفضون أن يموتوا عاجزين دون محاولة التصدي والمواجهة, هم يرفضون أن يكونوا كبش فداء, أو قرابين على مذبح المؤامرات والانقلابات, كما يجري لشعوب المنطقة من حولهم, التي لم تكتشف أسرار الخوف الا متأخرا, فلم تتحصن منه, كما في قطاع غزة.. هذا السهل الممتنع.