د.عدنان أبو عامر
أخذت سياسة العمليات العسكرية لحركة حماس، منحى جديراً بالدراسة بين مرحلتي الانسحاب من قطاع غزة أواخر عام 2005، إلى مرحلة السيطرة الكاملة على القطاع أواسط 2007، وصولاً إلى اندلاع الحرب على غزة أواخر 2008.
وهي مراحل لاقت دراسة وتقييماً من قبل جهاز المخابرات الإسرائيلية الداخلية "الشاباك"، نعرض هنا لأهم ما تطرقت إليه لمحاولة وضع تصورات حول طبيعة التوجهات الإسرائيلية القادمة ضد حماس في غزة.
** بعد النجاح في الانتخابات
بعد أن حققت حركة حماس نجاحاً كبيراً في انتخابات المجلس التشريعي أوائل 2006، بدا واضحاً أنها بصدد وضع عدد من الضوابط والمحددات لإدارة العمل العسكري ضد إسرائيل، وعلى خلفية هذه الضوابط يمكن قراءة سلوكها العسكري وفق الاعتبارات التالية:
الاعتبار السياسي: رغبة حماس في تثبيت سلطتها في المقام الأول، وعلى رأس ذلك إقامة حكومتها للمرة الأولى في السلطة الفلسطينية.
الاعتبار العسكري: انشغل الجهاز العسكري لحركة حماس، كتائب القسام، بعملية طويلة المدى أطلق عليها "بناء القوة"، لتحسين قدراته الذاتية وتحسين مفاعيله الميدانية، ترقباً لأي مواجهة عسكرية مفترضة في المستقبل مع إسرائيل.
الاعتبار الشعبي: بدا واضحاً أن تنفيذ حماس لعمليات عسكرية ضد إسرائيل، أخذت بعين الاعتبار نظرة الجمهور الفلسطيني، وحسابات داخلية فلسطينية بحتة.
ولعل من أهم هذه الدوافع الداخلية التي دفعت حماس باتجاه العمليات المسلحة:
- النزاع المسلح الداخلي بين حركتي حماس وفتح، الذي تدحرج بصورة سريعة وصولاً إلى مواجهة دامية بين الطرفين، اشتدت وتيرته في منتصف شهر حزيران 2007.
- ضغوط داخلية في حماس وجهات مسلحة أخرى، اعترضت على سياسة "تجميد" والكفاح المسلح، وفقاً لدراسة الشاباك.
- عدم رضا الجمهور الفلسطيني عن حالة الوضع الاقتصادي والاجتماعي والأمني، والآخذ في التراجع رويداً رويداً في الأراضي الفلسطينية.
- رغبة حماس بإعادة الحديث عن تفاهمات غير مكتوبة مع إسرائيل، شكلت أساساً لميزان الردع الذي أقامته في مواجهتها.
- عملياً، اتجهت سياسة حماس الميدانية خلال تلك المرحلة حول تنفيذ بعض العمليات العسكرية التي تركزت في النواحي التالية:
- إطلاق قذائف هاون بصورة موسعة، وجاءت كرد على سياسة الإحباطات المتواصلة التي انتهجتها إسرائيل للحيلولة دون خروج عمليات مسلحة من غزة باتجاه حدودها، واعتبرت بنظر حماس خرقاً للوضع القائم واتفاق التهدئة غير المكتوب.
- التحفز باتجاه تنفيذ عمليات في إسرائيل وعلى حدودها، لاسيما من خلال حفر أنفاق تحت الأرض، بغرض وضع عبوات ناسفة، وكان أهم ما نفذ من عمليات عبر هذه الطريقة عملية أسر الجندي "جلعاد شاليط" في يونيو 2006.
- تنفيذ جهود حثيثة ومركزة للقيام بعمليات مسلحة داخل إسرائيل مروراً بأراضي سيناء، وسجل عام 2007 وقوع ثلاث محاولات شهرياً لتنفيذ عمليات من هذا النوع، وشهد أول نجاح لهذه الطريقة عبر تنفيذ العملية الاستشهادية بالقرب من مدينة إيلات، وأسفرت عن مقتل 3 إسرائيليين.
*** بعد السيطرة على القطاع
بعد استكمال سيطرتها على قطاع غزة في حزيران 2007، اقتصرت سياسة العمليات المسلحة لحركة حماس على إطلاق قذائف الهاون، وتنفيذ عمليات على حدود ما يعرف بـ"غلاف غزة"، والامتناع عن إطلاق صواريخ القسام وغراد باتجاه المستوطنات الواقعة في العمق الإسرائيلي.
وبالتالي أرادت حماس صيد ثلاثة عصافير بحجر واحد: المحافظة على النفوذ والسيطرة على القطاع من جهة، ومن جهة ثانية مواصلة الجهود لتعاظم القوة العسكرية لجناحها المسلح، ومن جهة ثالثة الحفاظ على صورتها بأن تبقى متمسكة بشعار الكفاح المسلح ضد إسرائيل بنظر الفلسطينيين.
وقد استمرت هذه السياسة مدة سبعة أشهر، وتواصل خلالها إطلاق القذائف باتجاه إسرائيل في سقف منخفض، لاسيما من خلال المنظمات المسلحة الصغيرة، وما لبثت حماس أن ذهبت بصورة مفاجئة نحو تصعيد عملياتها العسكرية باتجاه إسرائيل، لاسيما من خلال إطلاق الصواريخ، حيث عرفت الحدود الجنوبية 3 جولات ساخنة من إطلاق القذائف والصواريخ.
وقد هدفت حماس من ذلك إلى جباية ثمن من إسرائيل رداً على سياستها المتواصلة باستهداف عناصرها، ومنعهم من تنفيذ عمليات ضدها.
كما وسعت حماس من رقعة إطلاق الصواريخ، بعد أن رأت في قذائف الهاون سلاحاً تكتيكياً محدوداً، لن يفضي بالضرورة إلى تصعيد حقيقي، ولا يوقع خسائر بشرية وأضراراً مادية، وفي ذات الوقت دون تجاوز "الخط الأحمر"، الذي قد يؤلب إسرائيل للرد، وبعنف أكثر من ذي قبل.
في المقابل، شهد عام 2008، تصاعد محاولات تنفيذ عمليات "نوعية"، لاسيما تلك المتعلقة باستهداف مواقع الجيش على طول الحدود مع قطاع غزة.
وكان أخطرها تلك العملية المزدوجة بالقرب من معبر كرم أبو سالم جنوب القطاع بتاريخ 19 أبريل 2008، من أجل إحداث تغيير في ميزان القوى وتوازن الردع، بنظر حركة حماس، لاسيما في ظل مواصلة الحصار المفروض على غزة، وتضييق الخناق أكثر فأكثر على الحركة هناك.
** عشية الحرب على غزة
شهدت المرحلة التي سبقت بوقت قليل اندلاع عملية "الرصاص المسكوب" على غزة، تصعيداً عسكرياً ميدانياً من قبل حماس غير مسبوق ضد إسرائيل.
فقد شهد النصف الثاني من عام 2008، توقيعاً لاتفاق التهدئة من قبل المصريين بين إسرائيل وحماس، الذي بدأ فعلياً بتاريخ 19 يونيو، وخلال هذه الفترة سجل انخفاض ملموس في حجم ونوع إطلاق القذائف والصواريخ باتجاه إسرائيل.
ومع اقتراب نهاية التهدئة، بتاريخ 19 ديسمبر، اتخذت حركة حماس قراراً بعدم التمديد للتهدئة، في سياقاتها وظروفها السابقة، وإنما أرادت الوصول إلى "تهدئة محسنة"، وفي ظروف أفضل من ذي قبل.
وكان هدف حماس الأساسي من هذه الخطوة إزالة الحصار المفروض على غزة، وفتح المعابر على الحدود مع مصر وإسرائيل.
إلى جانب أن مطالبها تلك لم تكن تتعارض مع سعيها الحقيقي نحو تثبيت التهدئة في قطاع غزة، في ضوء أن الهدوء السائد هناك سيعمل على تقوية سيطرتها، وتمكين سلطتها هناك.
وفي ضوء ذلك الهدف، لجأت حماس إلى تصعيد عسكري ملموس، تمهيداً للوصول إلى الموعد النهائي لنهاية التهدئة فعلياًَ، بحيث تكون أكثر قوة في هذه الحالة.
إضافة لذلك، فقد شهدت بداية شهر نوفمبر 2008 انهياراً متسارعاً لاتفاق التهدئة، في أعقاب عمليات ميدانية لإسرائيل بغرض إحباط عملية مسلحة كانت حماس تريد تنفيذها من خلال نفق وسط قطاع غزة.
وخلال هذه العملية، قتل 6 من نشطاء حماس، وأصيب 4 من الجنود الإسرائيليين، حيث نجم عن ذلك إطلاق مكثف لحماس للصواريخ باتجاه إسرائيل، التي ردت بدورها، مما جعل حماس تفقد بعضاً من عناصرها الإضافيين، بفعل الضربات الجوية الإسرائيلية.
عملياً، وعلى أرض الواقع، أدى تدهور الوضع الميداني إلى تصعيد صعب وقاس، بصورة غير مسبوقة، لاسيما باتجاه سقوط عشرات الصواريخ على المستوطنات المحاذية لقطاع غزة.
وقد أدى هذا التدهور الميداني بصورة تلقائية إلى أن تتخذ إسرائيل قراراً بالخروج إلى العملية العسكرية المسماة "الرصاص المسكوب" أواخر ديسمبر 2008.
*** ملخص
من خلال إجراء مراجعة ميدانية، وقراءة سياسية، لطبيعة وأساليب العمليات العسكرية التي قامت بها حماس في فترة الدراسة، يتبين لنا الاستنتاجات التالية:
تركيز حماس على بناء القوة العسكرية المتنامية لجناحها المسلح، لتأدية دوره التاريخي المناط بحركة حماس، من أجل أن تتصدر وظيفة الكفاح المسلح ضد إسرائيل من داخل قطاع غزة.
ومن خلال الملاحظة، تبين أن الذراع العسكري لحماس، يمتلك وسائل هجومية، تتركز معظمها في الصواريخ والقذائف، بكميات كبيرة، وبقوة متنامية مع مرور الوقت.
وهو ما يشير إلى رغبة حماس في مواصلة واستمرار استهداف المواقع الإسرائيلية، المدنية والإستراتيجية في العمق الإسرائيلي، من خلال لجوئها إلى إطالة أمد تلك الصواريخ.
بناء القوة الدفاعية لحركة حماس، حيث سعت من خلالها إلى "الامتداد الأفقي"، داخل مناطق مختلفة من قطاع غزة، بما في ذلك مناطق سكنية وأحياء شعبية، وإقامة شبكة أنفاق كبيرة، داخل تجمعات سكانية مزدحمة.
وقد سعت حماس من خلال تلك الوسائل والأساليب إلى إيصال "رسائل ردعية" إلى إسرائيل، ومنعها من القيام بأي عملية عسكرية برية في داخل قطاع غزة، عبر منح الذراع العسكري القدرة على إعاقة أي تقدم أو تحرك لقوات الجيش الإسرائيلي إذا ما قررت الدخول للقطاع، والحصول منها على ثمن باهظ في جنوده ومقاتليه!
تراوحت سياسة العمليات العسكرية لحركة حماس، بين الامتناع عن تنفيذ الهجمات المسلحة، وبين إجراء تصعيد ميداني مدروس، يحافظ على استمرار الهدوء النسبي في القطاع، والاكتفاء باستخدام القذائف الصاروخية ضد إسرائيل.
طبعاً يتم كل ذلك، بالتوافق التام مع مطالب حماس واحتياجاتها، ومن بينها:
- المحافظة على استقرار الأمن في القطاع.
- بقاء الدعم الشعبي الفلسطيني الواسع لها.
- تجنيد وتحشيد الرأي العام العالمي إلى جانبها، من خلال التضامن مع سكان القطاع، لاسيما في الدول الغربية.
- العمل على حرمان إسرائيل من أي "شرعية" لعملياتها الموجهة ضد قطاع غزة، ومن خلال متابعة نتائج تلك السياسة التي تبنتها حماس، يتضح لنا أن مواطني إسرائيل، ومواقعها الإستراتيجية تحولت مع انطلاق اليوم الأول لعملية "الرصاص المسكوب" إلى أهداف أساسية.
- توسيع "رقعة النار" التي أطلقتها حماس، عدد القذائف، الأبعاد الطويلة للصواريخ، تقوية الرأس المتفجر لها، من أجل تكبير حجم المتضررين الإسرائيليين، وتوسيع رقعة الأهداف داخل الأراضي الإسرائيلية، التي أصبحت تحت تهديد هذه الصواريخ، بما في ذلك أهداف: - - محطات الكهرباء، مخازن الوقود، مصانع، مستشفيات.
- تقوية البنية التحتية العسكرية لحماس داخل قطاع غزة، بهدف ردع إسرائيل من إدخال قواتها العسكرية البرية هناك، وتقليص حجم العمليات "الإحباطية" للقوات الإسرائيلية، خاصة استهداف البنى العسكرية لحماس، ومنح باقي المنظمات المسلحة الحرية الكاملة في تنفيذ عملياتها، وبناء قوتها العسكرية، وإطلاق صواريخها باتجاه الأهداف الإسرائيلية.
حتى في أعقاب نهاية عملية "الرصاص المسكوب"، وتقلص المساحة السياسية والعسكرية الممنوحة للفلسطينيين في مواجهة إسرائيل، فقد بقي استخدام القوة العسكرية بنظر حماس أمراً مشروعاً، بما في ذلك إحداث نوع من "المشاغبات" الميدانية بغرض وضع حد لحالة الجمود السائدة، والعمل على تحصيل حقوق سياسية للحركة، سواء من إسرائيل أو السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
اقتباسات مقترحة
- انشغلت كتائب القسام، بعملية "بناء القوة"، لتحسين قدراتها الذاتية وتحسين مفاعيلها الميدانية، ترقباً لأية مواجهة عسكرية مفترضة في المستقبل مع إسرائيل.
- صادت حماس ثلاثة عصافير بحجر واحد: بسيطرتها على قطاع غزة، ومواصلة تعاظم قوتها العسكرية، وبقائها متمسكة بالمقاومة المسلحة ضد إسرائيل.
- أوصلت حماس "رسائل ردعية" لإسرائيل، لمنعها من القيام بعملية عسكرية برية، ومنح كتائبها القدرة على إعاقة أي تقدم، والحصول على ثمن باهظ في حياة جنوده.