طلبت الحكومة الإسرائيلية من الإدارة الأميركية، ضمان استمرار المفاوضات لمدة عام آخر، وذلك مقابل إطلاق سراح الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين القدامى، وذلك لمنع القيادة الفلسطينية من التوجه إلى الأمم المتحدة ومؤسساتها، خاصة المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، ضد الاحتلال الإسرائيلي .
بهذا وبغيره من الضغوط المباشرة وبالواسطة، تحاول حكومة نتانياهو ومن خلفها الإدارة الأميركية، دفع السلطة الفلسطينية للموافقة على استمرار المفاوضات ولو بدرجات عليا من الإجحاف، مع الإدراك التام أن كل هذا العناء الأميركي والإسرائيلي لن تكون له نتيجة أو نتائج مضمونة سوف تفضي إليها تلك المفاوضات، لا سيما وهي دوما تبدأ من نقطة سبق وأن قُتلت بحثاً، من قبيل ما أفضت إليه مفاوضات سابقة مع إيهود باراك عام 2000، أو تلك التي جرت مع إيهود أولمرت عام 2008. وها هو نتانياهو يواصل مماطلته وتسويفه وتأجيله لكل ما وعد به بخطاباته في بار إيلان وواشنطن ونيويورك، من دون أن يكون هناك بارقة أمل ولو ضئيلة لتقدم ما، في مفاوضات صارت ممتنعة ومغدورة عشرات المرات، بفعل الموقف الإسرائيلي غير الجدي، الجائع لمزيد من الأرض من أجل البناء الاستيطاني فوقها .
وفي كل الأحوال لا يبدو أن المفاوضات، في صدد الوصول إلى حلول عملية، بقدر ما يراد إسرائيلياً استثمار المزيد من تقطيع الوقت للاستيلاء على المزيد من الأرض، وممارسة سياسات القهر والطرد والقوانين العنصرية والأبارتهايد، كنوع من استمرار جدل إدارة الأزمة، في ظل إدارة الظهر الإسرائيلية للصراع، في وقت بدا ويبدو أن إدارة أوباما لا تمتلك حلولاً سحرية، وهي أعجز من أن تستطيع الضغط من أجل تقديم دولة فلسطينية مستقلة بحدود العام 1967، لا لأن نتانياهو وائتلافه الحكومي بتركيبته اليمينية المتطرفة المؤثرة على القرار الإسرائيلي العام، يرفض ذلك، أو لا يقبل بإمكان وجود دولة بمواصفات ترضي الجانب الفلسطيني، بل لأن الأمر الواقع الاستيطاني قد تجاوز كثيراً إمكان نشوء دولة مستقلة حقاً، ولأن الإدارة الأميركية الحالية، وفق نتانياهو، «يمكن تحريكها بسهولة، وفي الاتجاه الصحيح»، اتجاه الائتلاف الحكومي الإسرائيلي، الماضي في سياساته الاستيطانية والمراوغة عبر اقتراحات تبادل الأراضي .
وبعد حلقة «اتفاق الإطار» كحصيلة للمفاوضات الأخيرة، وكمقترح أخير من جانب الإدارة الأميركية ووزير خارجيتها، الذي اتضح ويتضح الآن أنّ ليس من بين ما يَعِد به هذا الاتفاق العتيد أيُّ ملمح من ملامح المصادقة على إقامة دولة فلسطينية، فلا وعود أوباما الخطابية ولا وعود نتانياهو المماثلة أمكنها أو يمكنها أن تقنع أي طرف بمصداقيتها، طالما هي تلتزم إطاراً بات معروفاً بكونه توجهاً واضحاً لإدارة الأزمة وليس لإيجاد حلول واقعية لها. وبذا، فإن كسب نتانياهو جولة مقاومة الضغوط الأميركية وتهديده استحالة استمرار العمل بتجميد بناء الاستيطان، إذا ما أريد للائتلاف الحكومي أن يستمر، يعني أنه ماض في سبل مواجهته للتنصل من وعد إقامة دولة فلسطينية، عبر التسويف والمماطلة تفاوضياً وصولاً إلى اللاحل، كحل يمتلك ناصيته كأمر واقع، فمثلما انتهت كل جولات التفاوض إلى مرابع الفشل، كذلك فإن من قادها إلى هذا المآل لن يكون معنياً إلا بقيادتها إلى المآل ذاته، حتى ولو حضرت قضايا الوضع النهائي، وهي التي تتطلب تفاوضاً مباشراً، وفق نتانياهو .
وطالما أن واشنطن لا تبدي استعداداً للوصول إلى حل سياسي محتمل، أو ممكن على طاولة المفاوضات يقبل به الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني، فإن المفاوضات وإن كشفت عن وجه سافر من أوجه السلوك الإسرائيلي المراوغ ونزوعها للمماطلة، كذلك ستبقى جولات التفاوض القادمة عرضة للسلوك ذاته الذي طبع ويطبع وسيطبع سلوك نتانياهو وائتلافه الحكومي الحالي، وهو الذي لا يقل غطرسة عن سلوك إسرائيل في كل المراحل التفاوضية، كذلك هو الوجه الآخر الأميركي الذي لا يدير حلولاً تفاوضية بمقدار ما يدير أزمات تتعمّق كلما جرت مقاربتها من قبله، وهو الأحوج إلى مقاربات مختلفة تساعده في مواجهة الأزمة الاقتصادية وتحديات قطبيته الأحادية التي انتهت إلى الإخفاق المؤكد أخيراً في مواجهة الأزمة الأوكرانية .
في ظل معطيات كهذه، يبقى القول إن أخطر ما يمكن أن تتسم به أي جولة من جولات التفاوض القادمة، هو أن تبدأ بشروط إسرائيلية وموافقة ضمنية أو غير ضمنية أميركية وعربية، حيث يجري حصار الطرف الفلسطيني المفاوض حصاراً مطبقاً، في محاولة لإجباره على الموافقة على تلك الشروط التي لا تحمل في طياتها سوى صياغات تصفوية، من قبيل الاندفاع الإسرائيلي نحو فرض «دولة ذات حدود موقتة» تخترقها المستوطنات والجدار العنصري والحواجز العسكرية، وتحيط بها مخططات الأسرلة والتهويد، ويتواصل على جنباتها الاستيطان ويتزايد انتشار البؤر الاستيطانية كالفطر، من دون أن تستطيع السلطة الحالية، أو سلطة «الدولة القادمة» على صهوة مفاوضات الشروط الإسرائيلية والأمر الواقع، النفاذ من شبكة إكراهات التفاوض، وفق الشروط الإسرائيلية الرافضة أصلاً أي موقف فلسطيني أو عربي يُشتَمّ منه أنه يشبه أي شرط -أو ما يمكن اعتباره شرطاً من الشروط .
إن مفاوضات لا تنجح ولا تسعى إلى إنهاء الاحتلال، وإنما إلى مشاركته في إدارة أزمة احتلال الأراضي الفلسطينية، ومواصلة الكتل الاستيطانية الكبرى، كونها «مسمار جحا»، استمرار الاحتلال سافراً أو مقنّعاً، لا يعني سوى أن المفاوضات تقوم بين أطراف غير متكافئة، إضافة إلى أن أسس التفاوض لا تقوم على قواعد راسخة ومكينة وواضحة. ولأن تلك المفاوضات العتيدة يقاربها الإسرائيليون بشروط مجحفة، والأميركيون بسبب حاجتهم ومصالحهم المباشرة، والسلطة الفلسطينية كونها خيارها اليائس وجدارها الأخير، فإنها (المفاوضات) ستبقى تقارب الفشل أو الإفشال المتعمد، ما يعني أنها ستبقى تنتهي كما تبدأ، وها هي تنتهي أخيراً، كما سبق وانتهت جولات تفاوضية سابقة