النزاعات المالية تفتح أبواب الجريمة

(صورة من الأرشيف)
(صورة من الأرشيف)

غزة- شيماء مرزوق

الاتصال الاخير بينهما ساده الهدوء على عكس سابقه, فقد اطمأنت نفس الصراف فضل الاسطل 50 عاماً بعدما ابلغه (ح- ش) أنه سينهي المعاملات المالية بينهما.. ظن الاسطل ان الرجل  سيسدد الاموال المستحقة عليه بعدما اشتعل الخلاف بينهما منذ فترة.

بدأ نهاره بخبر سار اعاد الامل اليه في استرداد امواله. توجه إلى مكتبته, دون ان يعلم ان خصمه وجد حلا اخر للخلافات المالية, فكانت المرة الاخيرة التي تطأ قدماه فيها هذه الطريق.

وصل المكتبة يحمل مبالغ نقدية كبيرة.. دقائق ودخل خصمه المكان وقبل ان ينبس ببنت شفة كان المسدس يتجه صوبه وينهي حياته برصاصة اخترقت رأسه.

الجريمة هزت ارجاء قطاع غزة ودوى الخبر المفجع كصدى الرصاصة التي انهت حياة الصراف لكنها فتحت الباب أمام قضية المعاملات والخلافات المالية التي تنتهي بجرائم, خاصة وأن الاحصائيات تتحدث عن حالتي قتل منذ بداية العام 2014 في قطاع غزة كان الدافع وراءها خلاف مالي, بينما شهد العام 2013 ثلاثة حالات, وفق تقرير المركز الفلسطيني لحقوق الانسان.

"الرسالة نت" وقفت عند جرائم الخلافات المالية وحاولت التنقيب عن ابرزها والاسباب التي أدت لانتشارها خاصة أن بعضها يستره الصلح العشائري قبل ان يصل أروقة المحاكم.

ارتفاع مؤشر الجريمة

 لمحة سريعة تكفي للناظر كي يدرك حجم الملفات المتكدسة في اروقة المحاكم والتي يقف الدافع المالي والاقتصادي خلف الكثير منها, وقد بلغ عدد جرائم الاموال في العام 2012 حوالي اربعة الاف بينما سجل العام 2013 قرابة الستة الاف قضية بحسب جهاز الشرطة الفلسطيني.

الاحصائيات المذكورة وان كانت لا تعطي نسبة دقيقة حول الجرائم التي ارتكبت بسبب خلافات مالية لكنها تؤكد أن مؤشر الجريمة يرتفع بالتزامن مع ارتفاع نسب الفقر والبطالة وتردي الاوضاع الاقتصادية وهي الحالة التي شهدها قطاع غزة خلال العام المنصرم عقب تشديد الحصار واغلاق الانفاق.

"

الصلح العشائري: مماطلة المحاكم في قضايا الشراكة والاستدانة سبب رئيسي

"

الصراف الاسطل دفع ثمناً باهظاً لمطالبته بحقوقه المالية من الجاني الذي ما زال يمثل امام المحاكم, لكن القضية بدأت تؤرق شريحة كبيرة من المجتمع بعدما تكررت مثل هذه الحوادث.

المواطن (ل.ي) 30 عاماً استشاط غضباً بعدما صرخ تاجر الدراجات الهوائية في وجهه وطالبه اكثر من مرة بتسديد ثمن الدراجتين اللتين اشتراهما منه قبل شهرين والا سيتقدم بشكوى للشرطة ضده.

الغضب وضيق الحال دفعا بالأفكار الشيطانية الى رأسه خاصة وأنه لن يتكمن من تسديد مبلغ خمسة الاف دولار قبل المدة المحددة فقرر حل المشكلة بطريقة أخرى.

اتصل الشاب العشريني بصديق له وخططا معاً لاستدراج التاجر, وبعد عدة ايام اتصل به واعطاه موعدا لسداد المبلغ وطلب منه المجيء لمكان قريب ما بين السوق والمقبرة.

لم يتردد الرجل صاحب المال في حضور الموعد لتحصيل امواله لكنه تفاجأ عندما وصل المكان بان الشاب احضر صديقا له ودخلوا المقبرة فتبعهم دون مبالاة.

"

جهات حقوقية: سياسة القضاء اتجاه خلافات الأموال تدفع الناس لأخذ القانون باليد

"

وصل الثلاثة الى منتصف المقبرة وقرأوا الفاتحة وبعدها استدار الشاب نحو صاحب المال وأبلغه ان لديه شيك بقيمة الفي دولار فرفض وعلا صوته بالصراخ وطلب منه دفع كامل المبلغ في تلك الاثناء كان صديقه يخفي عصى غليظة خلفه ضربه بها على رأسه, ثم اعتدى الاثنان عليه حتى وقع مغشياً عليه وسرقا الاموال التي كانت بحوزته وقيمتها 2500 دولار ثم هربا وتركاه ينزف.

طول الإجراءات

الجرائم السابقة دفعتنا للبحث عن دور القضاء في الحد من انتشار الجريمة من خلال احكام رادعه خاصة وأن المجرم في القضية الأخيرة حكم عليه بالسجن مدة اربع سنوات رغم انه نفذ محاولة قتل.

سامر موسى محامي مؤسسة الضمير لحقوق الانسان أكد ان الخلافات المالية سبب مباشر لانتشار الجريمة والتي وصل بعضها حد القتل.

واعتبر ان القضاء يعاني مشكلة التباطؤ الشديد في طول الاجراءات واحقاق الحقوق وانصاف الضحايا مما يدفع المواطنين للجوء لأخذ القانون باليد, خاصة في النزاعات المالية والتي يكون صاحب المال فيها يبحث عن الحل الاسرع لتحصيل امواله, والمدين كذلك يبحث عن طريقة تخلصه من غلبة الدين, ومن هنا تبدأ المشكلة التي غالبا ما تتطور لجريمة.

وأوضح أن الدائن دائما بحاجة لأسرع الطرق لتحصيل امواله, وقد حاولت الحكومة في غزة التغلب على هذه الاشكاليات من خلال عمل وحدة خاصة بالنزاعات المالية في عدد من الاجهزة الامنية والتي تساهم بحل جزء من هذه النزاعات لكنها تبقى خارج نطاق القانون الذي ينص على ان فض النزاعات ساحته القضاء.

ولأن اجراءات المحاكم تستغرق سنوات, يحاول المواطنون اللجوء للصلح العشائري خاصة مع قدرته على حل الكثير من المشاكل المالية ودياً وبشكل سريع.

الحاج أبو ناصر الكجك مسؤول ملف العشائر في وزارة الداخلية بغزة قال ان طول الاجراءات في المحاكم والمماطلة عنصر اساسي في لجوء المواطنين للإجرام او الانتقام.

"

الشرطة: حالات القتل قليلة ونحاول حل الخلافات البسيطة وديا

"

ولفت الى ان سياسة التقسيط التي يتبعها القضاء في حل النزاعات المالية شجع الكثير من المدينين الى المماطلة في الدفع, ودفع اصحاب الاموال لمحاولة تحصيل اموالهم بطرق اخرى بعيداً عن القضاء.

"الرسالة نت" نقلت لجهاز القضاء الاتهامات الموجهة له بمسؤوليته عن انتشار جرائم الاموال بسبب اجراءاته والتي رد عليها مستشار محكمة الاستئناف القاضي اشرف فارس بالقول "جرائم الاموال او الخلافات بين المواطنين لا تعني وجود قصور في القانون او عمل القضاء", معتبراً أن جرائم القتل اجمالا محدودة في المجتمع الفلسطيني ونسبة القتل بسبب الخلافات المالية قليلة ولا يمكن تعميمها.

وأوضح أن المشاكل المالية ليست نابعة من الاحكام القضائية او المعالجات القانونية القاصرة وانما السبب الاساس فيها هو تطور الخلافات بسبب الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية, مبيناً ان الجرائم من هذا النوع مرتبطة بالشعور بالأمان المالي وليس هناك قصور قانوني.

حلول ودية

لم يتوقع الأربعيني (ك.س) أن يشب الصراع بينه وبين صديقه المقرب بسبب شراكتهما فقد استلقى على فراشه يستذكر اربع سنوات من الشراكة بدأت بالكثير من الود والتسامح بين الطرفين لكن الشهور الاخيرة لم يمر منها يوم دون شجار وخلاف حول اموال كل منهما ونصيبه من الارباح, انتهت بعراك كبير بينهما, ولم تفلح بعدها كل محاولات الصلح.

قطع صوت الهاتف شريط ذاكرته ليتفاجأ بصوت شريكه يبلغه بأنه سيفض الشراكة معه بعد ان سحب امواله وارباحه واغلق الهاتف, لم يستوعب الأربعيني (ك.س)  ما جرى واشتعل الحقد في قلبه وقرر الانتقام, بعد يومين افرغ نار الحقد المشتعلة في قلبه عبر "جالون" بنزين سكبه حول منزل شريكه الذي أكلته النيران.

قضايا عديدة من هذا النوع نبشت عليها "الرسالة" في أرشيف المحاكم, لكنها لم تتمكن من الحصول على رقم دقيق حول الجرائم التي ترتكب بسبب النزاعات المالية.

ويبرر جهاز الشرطة عدم وجود احصائيات دقيقة حول جرائم الخلافات المالية الى صعوبة حصرها, بسبب كثرتها وتعدد اشكال الجرائم التي ترتكب بسبب المال.

المتحدث باسم جهاز الشرطة المقدم ايوب ابو شعر أكد ان احد الاسباب التي تؤدي للجرائم والاعتداءات هي المعاملات المالية خاصة بين الشركاء او المدينين, حيث تعتبر مدخلا للخلافات والتي قد تتطور في بعض الحالات للجريمة.

وبين ان عددا قليلا من هذه الحالات يصل الى القتل, حيث تتعامل الشرطة مع هذا النوع من القضايا بمحاولة معالجتها بشكل ودي بين الخصوم قبل ان تصل للقضاء.

ولفت إلى أن في بعض الخلافات المالية اذا كان صاحب الشكوى يملك مستندات مالية مثل الشيكات او الكمبيالات تحاول الشرطة حل القضية ودياً والا تحولها للنيابة ومن ثم القضاء.

الحلول الودية والصلح العشائري وسياسة التقسيط التي ينتهجها القضاء يرى البعض انها تفاقم المشاكل ولا تحد منها كما أنها قد تكون سبباً في تضييع الحقوق أو تأجيلها.

"

القضاء: ليست ظاهرة وننتهج سياسة واقعية في حل النزاعات المالية

"

اتهامات بالتقصير وجهت للقضاء, حيث ينظر حقوقيون بخطورة للقضايا المالية خاصة وأن الأوضاع الاقتصادية والضائقة المالية تعتبر سبباً مهماً لانتشار الجرائم, وهو ما يتطلب اجراءات أكثر صرامة من القضاء, وهذا ما طالب به الحقوقي موسى حيث شدد على ان الاراضي الفلسطينية بحاجة لقضاء عادل وناجز وهناك حاجة لإعادة النظر بجهاز القضاء الفلسطيني ليكون اكثر واقعية وقدرة على التعامل مع قضايا الناس.

ولفت الى وجود قفزة نوعية في تطبيق الاحكام القضائية بغزة التي تنفذ معظم الاحكام الصادرة وهذا اعاد هيبة الشرطة وساعد في تحقيق شيء من منظومة العدالة.

واعتبر ان تشديد الحصار في الشهور الاخيرة مرتبط بشكل مباشر بزيادة الجرائم خاصة وأن عددا كبيرا من تجار الانفاق مروا بضائقة مالية وليس لديهم قدرة على السداد وهم مرتبطون بشكل مباشر بعدد من المواطنين مما فاقم الخلافات وساهم في ازدياد النزاعات المالية.

المطالبات الحقوقية توافقت مع اراء رجال الصلح العشائري والتي بات بعض المواطنين يلجؤون اليها كبديل عن القضاء, حيث أكد الكجك انهم يتعاملون مع مئات القضايا الخاصة بالنزاعات المالية بين المواطنين.

واعتبر ان الاموال تخلق الجريمة في المجتمع حيث ان الكثير من الجرائم التي تواجههم يكون الدافع الرئيس خلفها هو خلاف مالي, خاصة في قضايا الشراكة والتي قد تنتهي بان يسلب احدهما مال الاخر فيلجأ لآخذ حقه بالقوة وهنا يقع المحظور ويصبح الانسان مجرم بسبب المال.

ولفت الى ان الاوضاع المعيشية الصعبة وتشديد الحصار ساهم في رفع نسب الجريمة وخاصة المالية منها, معتبرا ان الركود الاقتصادي وقلة الدخل اينما وجدا تنبع الجريمة والخصومة بين الناس.

وبين ان ادارات الصلح العشائري في القطاع تجمع على ان الشهور التي جرى تشديد الحصار فيها شهدت ارتفاعا في نسب الجرائم والخلافات بين المواطنين.

سياسة التقسيط

ويواجه القضاء انتقادات شديدة فيما يتعلق بطريقة حل النزاعات المالية خاصة عبر سياسة التقسيط التي ينتهجها.

القضاء رفض الاتهامات الموجهة له حول التقسيط معتبراً أنها سياسة واقعية في حل القضايا المالية ولا تتنافى مع القانون, بحسب القاضي فارس.

وأوضح ان القاضي يحدد بناء على القضية المنظور بها امامه وحاجة المدين وقدرة الدائن, كما أنه يعمل وفق الحاجات المجتمعية والظروف الاقتصادية.

وأكد ان القانون اعطى القاضي سلطة تقديرية يحاول من خلالها ايجاد الحكم الانسب للقضية والاكثر واقعية وقابلية للتنفيذ بما لا يتنافى مع القانون.

وأظهرت نتائج استطلاع للرأي العام حول أسباب انتشار الجرائم نهاية العام 2013 بقطاع غزة أن الأوضاع الاقتصادية سبب مهم لانتشار الجرائم والضائقة المالية حيث أكد  (14.15%) من المستطلعة آراؤهم أن الأوضاع الاقتصادية التي يمر بها القطاع وانتشار البطالة في صفوف عدد كبير من المواطنين سبب آخر في ارتفاع معدل الجريمة.

هذا الاستطلاع الى جانب الاحصائيات التي تتحدث عن ارتفاع نسب جرائم الاموال بشكل لافت بين عامي 2012 و2013 تؤكد أن الفقر والبطالة عاملان اساسيان في انتشار الجريمة في اي مجتمع لكنه ليس العامل الوحيد, حيث ان سوء الاوضاع الاقتصادية والعوز لا يدفع كل المجتمع نحو الجريمة, بحسب الاختصاصي الاجتماعي عطا ابو ناموس.

وبين ان الشخص صاحب التنشئة الاجتماعية السيئة لديه قبول للإجرام خاصة اذا ما تعرض لبعض العوامل المساعدة ومن اهمها الاوضاع الاقتصادية.

"

اختصاصي اجتماعي: الفقر والبطالة يدفعان للإجرام خاصة بسبب الديون

"

ولفت الى ان الفقر وعدم وجود دخل قد يدفع الفرد للجريمة سواء بشكل مباشر مثل اللجوء للسرقة او النصب والاحتيال او غير مباشر مثل حالة الاستدانة وعدم قدرته على السداد ومطالبة المدين بأمواله الامر الذي يدفع لحدوث مشاجرات او قتل احياناً.

واوضح ان الكثير من الاحداث والمشاحنات تجري يومياً بسبب سوء الوضع الاقتصادي حيث يلجأ الكثير من العاطلين عن العمل وحتى الموظفين الى الاستدانة لتوفير قوت يومهم وغالبا ما يعجزون عن السداد ومن هنا تبدأ الخلافات التي قد تتطور احيانا لمستوى الجريمة.

الاف الجرائم المالية تنظر امام المحاكم سنوياً عدد قليل منها يصل الى حد القتل, لكن العوامل الاقتصادية والاجتماعية الى جانب بطء اجراءات التقاضي تنذر بخطورة ازدياد هذه الجرائم طالما بقيت الاوضاع المعيشية على حالها واستمرت اتجاهات المواطنين لحل خلافاتهم المالية بأخذ القانون باليد.

 

البث المباشر