قبل ستة وستين عامًا, كانت هدى تتجول كالعادة بصحبة أخواتها وجارتها من الفتيات في بيارة" بستان" والدها بين أشجار البرتقال والزيتون التي تبعد عشرات الأمتار عن باب منزل عائلتها, وبين ذراعيها طفلها خضر الذي أبصر النور حديثًا.
انهت هدى جولتها بعد ما بدأ قرص الشمس ينحدر إلى المغيب, وتوجهت ومن معها لمنزل والدها تتنظر عودة زوجها من عمله, وعلى حين غرة دخلت الطائرات الإسرائيلية سماء بلدتها هربيا, ترمي بصواريخها في كل مكان .
هربيا قرية تقع شمال غزة على بعد15 كيلومتر منها تمتاز بزراعة الحمضيات، تحيطها قرية الخصاص والجورة وبربرة من الشمال، والمعروف عن أهلها أنهم يتحلون بطيبة القلب والبساطة، وترتفع حوالي 25 مترا عن سطح البحر.
وبالعودة إلى تفاصيل القصة, أخذ والد هدى بالصراخ مطالبًا الخروج من المنزل والتوجه إلى منطقة الأحراش التي تبعد مئات الأمتار عن مكانهم, لعلهم ينجو من الهجمة (الإسرائيلية) الشرسة.
خرجت العائلة بخفي حنين, وساروا على وقع أصوات القذائف وعويل جيرانهم إلى طريق الأحراش حيث تسكن هناك الظلمة والبرد والخوف.
لحق زوج هدى بهم, وأجسادهم طوال ليل تتراقص من شدة البرد لا ماء ولا طعام يخففا حدة خوفهم , أما المولود الجديد خضر الذي ظهره وجهه شاحبًا, وبان عليه المرض ,لتكتفي أمه بضمه بين ذراعيها الباردتين.
بعد ساعات من الألم والخوف والبرد والجوع بزغت الشمس بوجه خجول, لتعود العائلة مسرعًة إلى منزلها وتجد فيه الدفء ليسدوا رمق أطفالهم وأنفسهم, استعداد لليلة أخرى باردة.
بقي حال العائلة وعشرات العوائل ممن يجاورهم لمدة أسبوع, يهربون عند مغيب الشمس إلى الأحراش وعند طلوعها يعودون إلى مضاجعهم.
وفي ليلة لم يكن قمرها حاضر اشتّدت أصوات الانفجارات الناتجة عن الطائرات (الإسرائيلية) وتقدم الأليات العسكرية, التي تمركزت على حدود البلدة.
بدأ الرعب يتغلغل في قلب العائلة التي تلجأ بين الأشجار من كبيرها وصولًا لصغيرها, واشتد مرض المولود الجديد خضر بفعل البرد القارس.
لم يحتمل الطفل أصوات الانفجارات, والظلمة والبرد لتخرج روحه الباردة إلى العلياء, وتودعه أمه بحسرة, ليدفنه والده بين الأشجار الصغيرة على عجلة, وقرر والد هدى أن يتركوا البلدة وما في منزلهم متوجهين إلى وسط غزة لينجو بحياتهم.
طلب زوج هدى أن تذهب مع عائلتها, واعدًا إياها أن يأتي إليها ويأخذها, سارت العائلة مع دخول الساعات الفجر الأولى بين طريق صحراوي, باتجاه بلدة بيت لاهيا الواقعة شمال القطاع.
طول الطريق اجتاحت الدموع وجه هدى, التي لا تعرف سببها هل على زوجها الذي فقدته, أو على مولودها الذي مات من شدة البرد, أو على منزلها و بستان والدها والخيرات التي تركوها.
وصلت العائلة إلى وسط مدينة غزة, بعد مسيرة يوم كامل تعنون بالجوع والعطش والرعب, واستقروا في منزل خالهم الذي ترك البلدة قبل سنوات وذهب للتجارة وسط المدينة.
يوم تلو الأخر وزوج هدى لم يعد, زادت الزوجة من حسرتها وقلقلها, وبعد قرابة أسابيع ثلاثة هلهل الزوج إلى منزل خالها, وأخذها شرق حي الزيتون وبنى كوخ من الطين وعاش لعامين, قبل أن ينتقل إلى مخيم جباليا.
وتعد النكبة المأساة الإنسانية الكبرى المتعلقة بتشريد عدد كبير من الشعب الفلسطيني خارج دياره، بعد ما اغتصب أرضهم الجماعات اليهودية عام 1948م بدعم السلطات البريطانية التي كانت منتدبة على أرض فلسطين.
تلك الرواية قصتها الهرمة لمراسل "الرسالة نت", وتقول: "يوم أسود حين هجرت من بلدتي ومات طفلي وفقدت زوجي, أتذكر ذلك اليوم كما أراك أمامي الأن".
ولاتزال الحاجة هدى تعرف مواعيد حصد الزيتون والبرتقال والعنب رغم كبر عمرها, وتضيف: " لو ضلينا في بلادنا ومتنا فيها كان أفضل من هالحال".
أنجبت هدى صابر وجابر وأربع بنات, انتقلوا للعيش في الأطراف الغربية من مخيم جباليا، مات زوجها مع بداية الثمانينات , ووصل عدد أحفادها الأن قرابة الثلاثين.
" هربيا ما بتروح من بالي.. نفسي أرجع عليها, بس كيف بدي أرجع يما...", ختمتها المُهجرة هدى.