قائد الطوفان قائد الطوفان

مقال: (هل الأشهر الأربعة لمفاوضات غير مباشرة أم لحربٍ فاشلة ولرعبٍ ناشرة)

د. يونس الأسطل

 ( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (

( التوبة : 2 )

     ارتبتُ في توقيت الأشهر الأربعة التي منحتها لجنة المتابعة العربية سقفاً زمنياً للسلطة؛ لإجراء ما يسمى بالمفاوضات غير المباشرة مع الصهاينة، وهل يعني هذا أنه إذا انسلخت تلك الأشهر، ولم تخرج حركة فتح بشيءٍ، أن الزعماء العرب سيقفون موقفاً حازماً من الاحتلال؛ بأن يقاطعوه سياسياً أو اقتصادياً، أو أن يقتدوا بالقيادة التركية في الإحساس بالكرامة؟.

     لقد جاء ردُّ الصهاينة سريعاً، فكان الإعلان عن الشروع في بناء ستمائةٍ وألفِ وحدةٍ سكنيةٍ في كلٍّ من القدس والضفة الغربية، وأن هناك نية لبناء خمسين ألف وحدة سكنية في القدس نفسها في بضع سنين، وهنا نتساءل عن توقيت هذا الإعلان الذي يتزامن مع الشروع في الإجراءات العملية الهادفة إلى إلحاق المسجد الإبراهيمي بالتراث اليهودي، ومعه مسجد بلال بن رباح في بيت لحم، ضمن قائمة بستمائة مسجد ومعلم إسلامي على قائمة التهويد؟!.

     هل هو رسالة للعرب بأن قراركم لا يساوي المداد الذي كُتب به؟، أم هو برقية للسلطة الفلسطينية أن تجميد الاستيطان مستحيل، فإما أن تعودوا للمفاوضات المزمنة تحت سوط الاستيطان، أو تفقدوا ما مُنح لكم من سلطان؟!، ومن يدري فلعل ذلك بلاغٌ للأمريكان رعاة الحوار غير المباشر؛ ليتأكدوا أن المضيَّ في الاستيطان خطٌّ أحمر لا يحلُّ الدنوُّ منه بتاتاً!!.

      ولا بد قبل معرفة سِرِّ الأشهر الأربعة أن نتساءل: منذ متى كان الفلسطينيون في مفاوضاتهم المباشرة أو غير المباشرة مرتهنين للموافقة العربية، أم أن وراء الأَكَمة ما وراءها؟!.

     إن الزعامات العربية أحجارٌ على رقعة الشطرنج الأمريكية الصهيونية؛ لذلك فإن المرجح أنَّ هذا مطلبٌ صهيوني أملاه الأمريكان؛ لحاجة الصهاينة لأخذ غطاءٍ للاستيطان بالإيهام بأن المفاوضات مع السلطة الفلسطينية مستمرة، وأن الاستيطان لا يعرقل جهود البحث عن السلام.

     وأعتقد جازماً أن العودة إلى المفاوضات أرادها الصهاينة غطاءً لنشاطهم المحموم في تشييد آلاف الوحدات السكنية، وكأنهم يسابقون الزمن قبل أن تصدمهم مفاجآت كبرى تلجم أطماعهم المؤسسة على الاعتقاد بأن فلسطين حقٌّ خالص لهم، ومن حقهم أن يزرعوا ما يشاؤون من المستوطنات في الزمان والمكان المختار، دون أن يعترضهم أحد.

     وقد يكون راجحاً أن اللهث وراء المفاوضات- ولو غير مباشرة- يعني إدارة الظهر لجهود المصالحة المرفوضة صهيونياً، ما لم يضمنوا أنها سَتُفْضِي إلى انتخابات تُقْصي حركة حماس من الملعب  السياسي إلى المعارضة المطاردة بتهمة الإرهاب، وانتهاك الشرعية.

     وبالرجوع إلى الوحي المَتْلوِّ وجدت أن مهلة أربعة أشهر قد منحت مرتين، مرة للرجل الناشز الذي يحلف على هجر امرأته، وتركها كالمعلقة، فقد مُنح مدة أربعة أشهر يقرر فيها العود للعِشْرة، أو الفراق بمعروف، وهو التسريح بإحسان، والمرة الثانية في منح المشركين تلك المدة؛ ليقرروا فيها مصيرهم؛ فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله، فإما أن يختاروا الإسلام، فيصبحوا إخوانكم في الدين، أو يقبلوا عقد الذمة فَيَسْلَموا، وذلك إذا كانوا قد تَنَصَّروا في الجاهلية، وإلَّا فالخِيرَةُ بين الإسلام والجلاء، وهو السياحة في الأرض، أو يستعدوا للقتال؛ فإننا مكلفون إذا انسلخت الأشهر الأربعة من تاريخ المناداة عليهم في يوم الأضحى أن نضرب أعناقهم حيث وجدناهم، أو أن نأخذهم أسرى، فضلاً عن حصارهم، والجلوس لهم في كل مرصد، ما لم يكن لهم عهدٌ مؤقت فوق أربعة أشهرٍ، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، ما لم ينقصوكم شيئاً، أو يظاهروا عليكم أحداً، فإنهم بذلك ينقضون عهدهم، فينتهي أجله بذلك، ويلحقون بالذين ركبوا رؤوسهم، فلا أسلموا، ولا ارتحلوا، فأمسوا في خطرٍ شديد.

     وهنا نتساءل: هل ينظر العرب إلى العلاقة بين السلطة والاحتلال على أنها علاقة زوجية، وبامتناعه عن المفاوضات معها يكون بمثابة الزوج الناشز المُولي من امراته؛ أي الحالف على هجرانها تعسفاً مدة مفتوحة أو طويلة، فهو مُخَيَّرٌ خلال أربعة أشهر بين العودة إلى العشرة، أو الفراق بمعروف؟!.

     إذا كانت هذه نظرةَ العرب فهم مشكورون على الرغبة في تمتعنا بمباهج الحياة الزوجية مع الاحتلال الصهيوني، ومن حقهم علينا أن نُقَبِّلَ أقدامهم على تلك المِنَّة العظيمة!!.

     إن الأرجح في نظري أن المعنى الثاني هو المقصود؛ ذلك أن الصهاينة في حاجةٍ طارئةٍ لأربعة أشهر يكملون فيها الاستعداد للحرب القادمة، ومن المرجَّح أن تكون مشنونةً على إيران، ولا مانع أن يكون حزب الله في جنوب لبنان مشمولاً بها، كما ليس من المستبعد أن تكون النية متجهة للثأر من غزة وصواريخها وصمودها، وإن المدة المذكورة كافية لإتمام الاستعداد الضروري، فإن القرآن عندما مَنَحَ مهلة أربعة أشهر للمشركين فقد شَدَّ الانتباه إلى أنها كافية في التدريب والإعداد لأية مجابهة تعقبها.

     وقد دلت آية المقال على القوة التي وصل إليها الصحابة الأولون، حيث لا يرهبون عدوَّهم، ولو بقي أربعة أشهر كاملة يدرب ويُعَبِّئُ، ويجمع السلاح والعتاد، ويرصد المال والرجال، ولْيعلموا أنهم غير معجزي الله؛ فإنما نقاتلهم بمعية الله وقدرته، فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم، وما رميتَ إذْ رميت، ولكن الله رمى؛ وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً، ولله جنود السموات والأرض، وكان الله عزيزاً حكيماً.

     وقد ختم الآية بتأكيد أن الله مخزي الكافرين، وهو الإذلال والهزيمة، وما ينزل بهم من القتل والإثخان، وما يؤخذ منهم من الفيء والغنيمة في الدنيا، كما أنكم إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويُخْزِهم، وينصركم عليهم، ويشفِ صدور قوم مؤمنين، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا يُنصرون؛ فإن من يدخله ربه النار فقد أخزاه، وما للظالمين من أنصار.

     إننا ننعى على حركة فتح إتاحة الفرصة للصهاينة تحت غطاء مفاوضات غير مباشرة ليتأهبوا لحربٍ قادمة، في الوقت الذي أداروا فيه ظهورهم، أو صَعَّروا خدودهم للمصالحة، فلم يُبْدُوا ما يشير إلى رغبةٍ حقيقيةٍ فيها، ولا يغرنكم خارطة الطريق التي أعلن عنها النائب في كتلة فتح أشرف جمعة بين يدي القمة العربية المزمع عقدها في ليبيا في أواخر هذا الشهر، فالحاجة قائمة إلى خطوات عملية، لا إلى أفكارٍ فردية، قد رفضها الذين غلبوا على أمرهم، وكنا نتمنى أنْ لو أقدموا على إطلاق السجناء السياسيين من حركة حماس عندهم في الضفة الغربية، أو وجبةٍ منهم على الأقل، أو يسمحون لأعضاء المجلس التشريعي، وفيهم رئيسه، أن يدخلوه آمنين لا يخافون، أو الاستجابة لنداء الحكومة هنا في غزة بتشكيل لجنة وطنية لتشغيل معبر رفح، أو حتى بصرف النظر عن إجراء انتخابات بلدية منفردة في الضفة دون وفاق، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، وأضافوا إليه عرقلة تقرير(غولدستون) في الأمم المتحدة، وكذلك تقرير (ريتشارد فولك) عن أحوال الأرض المحتلة في عام 2009م، وهو يوصي برفع الحصار والمعاناة عن قطاع غزة، ولزوم فتح المعابر على مصراعيها، لإعادة الإعمار لما دّمَّره العدوان الأخير عليها.

     ولعل الأنكى من كلِّ ما سبق هو المواقع الإلكترونية الصفراء التي لا هَمَّ لها إلا نسج الأكاذيب والشائعات حول قيادة حركة حماس، وأركان الحكومة فرداً فرداً، وهم يعلمون أن هذا سيؤذينا، خاصة في ظل عدم النضج الأمني عند طائفةٍ من الناس، يتلقون ذلك الإفك بألسنتهم، ويقولون بأفواههم ما ليس لهم به علم، ويحسبونه هَيِّناً وهو عند الله عظيم، ولو رَدُّوه إلى القيادة، وإلى أُولي الأمر منهم؛ لعلمه الذين يستنبطونه منهم، وكان الأجدر بهم أن يظنوا بأنفسهم خيراً، أي بإخوانهم؛ فإن المؤمنين كنفسٍ واحدة، وأن يقولوا: سبحانك هذا بهتان عظيم، لكن عزاءنا في هذا الإفك أن الله عز وجل قد نفى أن يكون شراً لكم؛ بل هو خير لكم، وأن لكل امرئٍ منهم ما اكتسب من الإثم، والذي تولى كِبْرَهُ منهم له عذاب عظيم، إذْ لهم نار جهنم لا يُقضى عليهم فيموتوا، ولا يُخَفَّفُ عنهم من عذابها، وهم يصطرخون فيها؛ ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل.

     كما أن عزاءنا في جملة المبشرات التي تؤكد أننا من التمكين قاب قوسين أو أدنى، وجملة المؤشرات أن أمريكا واليهود، ومَنْ لحق بهم في طريقهم إلى البوار، وبئس القرار، لا سيما زعماء الجِوار.

     وما ربك بغافل عما يعملون

البث المباشر