جاء حديث الرئيس الفلسطيني محمود عباس قبل أيام في لقاء مع إحدى القنوات المصرية مفاجأة سيئة للفلسطينيين، لأنه صدمهم بجملة من المواقف الجديدة التي لم يسبق أن أعلنها قبيل توقيع المصالحة مع حماس.
وكان مما قاله "حماس استوعبت الدرس وقبلت المصالحة، وبدأت تفهم أنه ليس أمامها إلا أن تكون هناك مصالحة، لأن التجربة التي خاضتها في غزة لا يمكن لها أن تعيش بهذا الشكل، المصالحة تمت على أرضيتنا وشروطنا، واتفقنا على حكومة تكنوقراط مستقلين، حكومة توافق وطني".
دوافع المصالحة
ليس من المبالغة القول إن كلام عباس الأخير، وحالة التعثر التي تعيشها المصالحة، عملا على تراجع فرحة الفلسطينيين بتوقيعها، خاصة أن مما سرّع فيها وصول الأوضاع المعيشية في غزة إلى مرحلة غير مسبوقة من المعاناة، وعدم وجود ضوء في نهاية نفق العلاقة المتأزمة مع مصر، وحماس تأمل أن تكون المصالحة مع فتح بوابة لعودة العلاقات الجيدة مع القاهرة، أو على الأقل وقف حالة التوتر السائدة، والرغبة التي لا تخفيها بفك حالة العزلة الإقليمية والدولية التي تعانيها منذ إسقاط مرسي في مصر في يوليو/تموز 2013، والملاحقة الإقليمية للإخوان المسلمين، مما يسهم بفرص تعزيز شرعيتها في الساحة الدولية، وتسهيل فعالياتها الجماهيرية بالضفة الغربية، وأن تسهم بالإفراج عن معتقليها في سجون السلطة الفلسطينية.
في الجهة المقابلة، لم تكن حركة فتح لتأتي لإنجاز المصالحة مع حماس إلا بعد إخفاق برنامجها السياسي القائم على المفاوضات مع إسرائيل، وتهديدات عباس بأنه قد ينسحب من المشهد السياسي قبل نهاية العام الجاري، وقيادة حماس اقتنعت أنه في أزمة حقيقية مع إسرائيل، ولا تريد الظهور كمن تتخلى عنه في هذه المواجهة المصيرية، بجانب تخوف قيادة فتح من الكابوس الذي يطل برأسه بين حين وآخر ممثلا بمحمد دحلان، وما يقال عن نفوذه المتزايد في أوساط تنظيمية واسعة في فتح بغزة.
كل ذلك يعني أن هذه المصالحة قد تكون مختلفة عن سابقاتها، لأن البدائل ستكون كارثية على كل الفلسطينيين، بمن فيهم فتح وحماس، حين هدد أبو مازن قبيل التوصل إليها بإجراء الانتخابات العامة في الضفة دون غزة، إن لم يتم إنجاز المصالحة مع حماس.
الغريب والمفاجئ جاء في السرعة بالتوقيع على اتفاق المصالحة بعد ساعات فقط من بدء المباحثات، لأن معظم القضايا متفق عليها سابقا، وليست بحاجة لمزيد من النقاشات، لا سيما تحديد مواعيد الانتخابات بكافة أشكالها بعد ستة أشهر من تشكيل الحكومة، وتخويل الرئيس بالتشاور مع الفصائل لتحديدها، حيث ستكلف حكومة التوافق بتطبيق قضايا الحريات العامة، والمعتقلين السياسيين، وعمل المجلس التشريعي، والمصالحة المجتمعية.
وقد لاحظ الجميع أن البيان النهائي للمصالحة خلا من قضايا خلافية عديدة، وعلم من داخل غرف المفاوضات رغبة الجانبين في عدم وضعها في طريق إنجاز المصالحة، واتفقا على تجاوزها، خشية تفجير المباحثات، ورغبة في الانتقال من مرحلة التوقيع إلى التطبيق، حيث يكمن الشيطان في التفاصيل، وهنا يضعون أيديهم على قلوبهم خوفا وقلقا.
فور توقيع المصالحة، تطلع الفلسطينيون إلى اليوم الذي يعلن فيه الانتهاء من تشكيل حكومة التوافق، رغم ما أحاط بتشكيلها من مخاوف قد تعيق إعلانها في اللحظات الأخيرة، حيث اعتبرت فتح أن تشكيل الحكومة يجب أن ينضج على نار هادئة، دون الاستعجال بإعلانها، لأن هناك خطوات يجب أن تحصل لتسويقها، بالتزامن مع الاتصالات التي يجريها عباس إقليميا ودوليا، لتوفير غطاء سياسي ومالي لها، وطالبت بعدم التسرع بتشكيلها، لأن أجندتها تجعلها مختلفة عن الحكومات السابقة، حتى توفر الإمكانيات القادرة على التعاطي مع الملفات المرتبطة بالسياسة الخارجية.
لكن حماس علمت -بعد أن قلقت من تباطؤ عباس في إعلان الحكومة- أن الإرجاء الحاصل بتشكيل الحكومة قد لا تكون أسبابه محلية داخلية، بل خارجية بالأساس، إقليمية ودولية، وإسرائيلية بلا شك، وقد تبين لاحقا أن تفاصيل مباحثات حماس وفتح بحثت عن إجابات لأسئلة تسبق إعلان الحكومة من قبيل: عدد الوزراء، وتقسيمهم الجغرافي بين غزة والضفة، وكيف تجتمع إن رفضت إسرائيل توجه بعض الوزراء من غزة للضفة، أو العكس، وهل يتم ذلك عبر "الفيديو كونفرنس". وتمثلت العقبة الأخيرة في إعلان الحكومة بالتوافق على الوزراء المرشحين، لأنه استدعى مزيدا من الوقت للتشاور، وكاد يعصف بالمصالحة.
كوابح النجاح
لم يفت حماس أن تنقل لحكومة التوافق مطالب بعدم فصل موظفي حكومتها السابقين، وعدم إجراء تغييرات دراماتيكية في تركيبة الجهازين الإداري والأمني، مما دفعها فور الإعلان عن اتفاق المصالحة، للدخول في عملية حثيثة لإشغال المواقع القيادية في الوزارات التي سيتم إخلاؤها.
وجاء ذلك تمهيدا لدخول الوزراء الجدد -التابعين رسميا لعباس- بمنح الترقيات والدرجات لمسؤوليها الحكوميين، كعمل استباقي قبيل الحكومة الجديدة، عبر عقد اجتماعات متتالية لتعديل درجات كبار الموظفين، بلغت العشرات، ومنحهم درجات متقدمة، حيث قدم كل وزير كشوفات ترقيات موظفي وزارته رفيعي المستوى.
وهو ما جعل فتح تتحسس من هذه الإجراءات، واعتبارها غير واقعية من الناحية العملية، لأنها متسرعة ولم تخضع للتنافس النزيه، وستكون على أجندة الحكومة القادمة، وستخضع لمزيد من النقاش، وعدم أخذ المصادقة الفورية.
وفي ظل استبشار الفلسطينيين بأنباء المصالحة، بقيت العديد من الأسئلة تبحث عن إجابات، حتى إن اتفاق المصالحة الذي وقّع عليه القادة الفلسطينيّون خلا من القضيّة الخلافيّة الأكبر وهي سلاح كتائب عز الدين القسّام، خاصة أن 25 ألفا من موظفي حكومة غزة السابقة يعملون بالأجهزة الأمنية، وأغلبيتهم الساحقة من كتائب القسام، لكن اتفاق الطرفين على تأجيل البحث في ملف سلاح القسام لم يمنع حماس من بحث الموضوع الحساس في الأيام الأخيرة، مع تخوفها من الإعلان عن هذا السلاح بعد تشكيل الحكومة القادمة باعتباره خارج المؤسسة الأمنية الرسمية.
كما زادت مخاوف حماس في ضوء مواقف عباس الذي شدد في أكثر من مناسبة على عدم شرعية أي سلاح آخر مهما حمل من أسماء ومسميات، في إشارة لكتائب القسام، مما دفع حماس للإعلان أن المصالحة لن تؤدي لخضوع مسلحي القسام لسيطرة السلطة، واعتبار فكرة حل الكتائب غير واردة إطلاقا، والمطالبون بها "يهذون"، وعندما يتحدث أحد بهذا المنطق فهو خارج السياق الوطني، لأن تسليم سلاح القسام يدخل في حكم المستحيلات، وهو ليس موضع نقاش.
وقد علم كاتب السطور أن هناك توجها يتم الحديث به بصوت منخفض داخل السلطة الفلسطينية بحل جميع المليشيات المسلحة العاملة بغزة، بما فيها كتائب القسام، والاكتفاء بقوات الأمن الوطني كجيش لكل الفلسطينيين، كما هو سائد في الضفة الغربية، وحصر حمل السلاح بيد الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة.
كما تبين أن قيادة حماس تبذل جهودا حثيثة لدى كوادر القسام لطمأنتهم بعدم الاقتراب من سلاحهم، سواء بنزعه أو دمجهم في الأجهزة الأمنية، وهناك حالة من الإجماع بين السياسيين والعسكريين داخل حماس أن سلاح القسام هو الأولى بالمحافظة عليه، دون أن يعني ذلك رفض المصالحة، لكن الحقيقة السائدة داخل الحركة أنه لو تم تخييرها بين السلاح والمصالحة، سيكون الانحياز للأول.
قنابل ملغمة
في الوقت الذي أعلنت فيه المصالحة في غزة، فإن خيبات الأمل لاحقت عناصر حماس بالضفة الغربية، لأن الاتفاق لم يوقف اعتقالات السلطة ضدهم، بل اشتدت وتيرتها، وتشير الإحصائيات إلى ارتفاعٍ في أعداد المعتقلين السياسيين، زادت عن مائتين، وأكثر من خمسمائة استدعاء منذ بداية 2014، بينما زاد العدد منذ المصالحة عن عشرين عنصرا، واستدعاء آخرين، وعشرات لا ينامون ببيوتهم بسبب الملاحقات الأمنية.
وتعيش عائلات عناصر حماس المعتقلين بالضفة استياء حقيقيا، لأن المصالحة لم تأت على ذكرهم بالتفصيل، وتركت الموضوع لمزاج الأجهزة الأمنية، وكان يجب أن تولي المصالحة معاناتهم أهمية أكثر، وعدم ترحيلها لإشعار آخر، علما أن إنهاء ظاهرة الاعتقال السياسي في الضفة مرهونة بطبيعة الصلاحيات الممنوحة لوزير الداخلية، ورغم أن أجواء المصالحة إيجابية، لكن ملف الاعتقال السياسي سيظل غامضا، وهو ما يهددها في أي لحظة.
ولم تمض أيام قليلة على إعلان حكومة التوافق، حتى انفجرت في وجهها أولى الأزمات المتوقعة بعد يومين فقط من تشكيلها، بعدم تسلم موظفي حكومة حماس السابقة في غزة رواتبهم أسوة بنظرائهم الخاضعين للسلطة الفلسطينية، وتسبب ذلك في فوضى شهدتها مدن غزة، تخللتها اشتباكات أمام البنوك، مما دفع الشرطة إلى السيطرة على الموقف، وأعلنت البنوك إغلاق فروعها.
وحدا ذلك بحماس لمطالبة حكومة التوافق بالتعامل مع الموظفين بدون تمييز، وإلا فإنها تكرس الانقسام بين الضفة وغزة، عبر تسليم موظفين دون آخرين رواتبهم، مما يعني أن أزمة الرواتب تكريس بأن الفلسطينيين ما زالوا فريقين، مما قد يجلب مزيدا من ردود الأفعال.
ولذلك، جاء انفجار الأزمة مبكرا أمام الحكومة الجديدة ليؤكد "ظهور الشياطين" في تفاصيل تطبيق المصالحة، مما دفع بأوساط في حماس لإبداء شعور بأن عباس بدأ يلعب بها، ويثير تعثرها المبكر كثيرا من الشكوك تجاه نوايا فتح بجديتها، لا سيما أن تنصل حكومة التوافق من موظفي غزة ينتقص من شرعيتهم، باعتبارهم تابعين لحماس الحركة وليس الحكومة، وهذا ليس صحيحا، وسيجعلهم خارج سيطرتها إن لم يستلموا رواتبهم منها، وقد يفتح سيناريوهات غير مرغوبة، ستعرقل عمل الحكومة بغزة، ببعض التحركات الميدانية، تكون المسمار الأول في نعش المصالحة. فهل تبث فيها الحياة من جديد؟
الجزيرة نت