لم يتوقع رصيف غزة أن يحتضن وجعًا بين ذراعيه كطوابير الخاوية جيوبهم بحثًا عن الحق المتنازع عليه "الراتب"، حيث بكت فلسطين وجعًا على هم فرقائها الجديد!
حكاية النزاع الفلسطيني على جانبي الرصيف وتأوهات الطوابير المنتظرة كانت الأقسى منذ سنوات الانقسام السبع الماضية بعد أن أوصدت البنوك أبوابها بسبب إشكاليات حول صرف مخصصات موظفي غزة تخللها اشتباكات أدت الى سيطرة الشرطة على الموقف .
عم المساء وغفى الأمل في قلوب موظفي شطري الوطن بعد أن فرقتهم تصريحات رئيسهم وأثارت غضبهم حين ردد على الملأ :" اطلعوا مظاهرات وسكروا البنوك.. اللي كان يدفعلك يكمل إلى أن نتفق ونمشي"!
رفض محمود عباس تحمل مسئولية رواتب موظفي حكومة غزة السابقة ودعوة حماس إلى أن تلجأ لمن كان يمول رواتب موظفيها ليدفعها لهم, لم تنته فصول مسلسل الراتب حيث تسلل اليأس إلى قلوب موظفي الحكومة السابقة , واستمروا برفع شعار "لا للتمييز والتفريق بين الموظفين".
حالة حقد تولدت هنا بين الفئتين وكأنه الانقسام الاجتماعي بتبعاته, فعلى الرصيف تعلّقت قلوب موظفي السلطة بالصراف الآلي في حين أخفتها لافتات موظفي غزة ومن جف عرقهم منذ عدة أشهر دون تلقي رواتبهم كاملة .. وصل الأمر الى تبادل نظرات الحقد والتُّهم وصولًا الى تبادل الدعوات.
بكى الحاج السبعيني أبو لطفي من أمام دكانه على ذات الرصيف وحاول الوقوف على قدميه ليصرخ في وجوه الحاضرين .. احتفظت مقلتيه بالدمعات حفاظًا على كبرياء الوطن وردد دون أن يصل صوته للخاوية جيوبهم: لا تقزموا قضيتنا .. لا تجعلوا الوطن يبكي ".
صرخت إحدى الحاضرات على الرصيف وقد لفت رأسها بالكوفية لتُثبت وطنيتها إلا أن كلماتها زادت نفوس الحاضرين حقدًا وهي تصف الحكومة السابقة أفرادها الأمنية بالمليشيات التي تمنعهم من سحب رواتبهم من الصراف الآلي بعد مرور عدة أيام على ذلك .
دقائق وخلا الرصيف من طوابير الانتظار وتسمّروا أمام شاشة التلفاز أملًا ببشرة خير ينقلها لهم مؤتمر صحفي لحركة حماس ترأسه القيادي خليل الحية.
بعد تصريحات عباس خرج القيادي خليل الحية في مؤتمر صحفي إلا أنه أكد لموظفي السلطة بأن الرواتب على الحكومة الجديدة وردد بابتسامة ليخفف عنهم :" قلبي مع هؤلاء" (...) إلا أننا لم نتكلم عن الرواتب في المصالحة لأنها تحصيل حاصل وعلى الحكومة التكفُّل بدفع رواتبهم ".
لم يتوقع الوطن أن تكون العقبة الأولى في تطبيق اتفاق المصالحة قوت الناس وأرزاقهم والتمييز بين الموظفين وبين أبناء الشعب الواحد وذلك في الوقت الذي تنتظرها ملفات دسمة مطلوب إنجازها كملف منظمة التحرير والتئام الإطار القيادي المؤقت، والمصالحة المجتمعية وملف التحضير للانتخابات التشريعية والرئاسية وانتخابات المجلس الوطني.
هتف الجميع بصوت واحد "وين الراتب فش فش" وعادوا أدراجهم إلى الرصيف, ساعات انتظار تخللها إعادة تغريد لبعض ما كتبه الناشطون على صفحات التواصل الاجتماعي فقال أحدهم: "يحكى أن حكومة تطلب من موظفيها ان يستلموا رواتبهم من حكومتهم السابقة .. ابتسم الحاضرون وردد الحاج أبو لطفي: "هم ببكي وهم بضحك".
هلل عدد من الغاضبون واستمر المحتجون ترديد: "على حكومة الوفاق أن تعطينا رواتبنا لتفتح البنوك وتأخذوا ما تريدون", استيقظ الحاج أبو لطفي من غفوته على صوت الصراخ وبات يردد : "انما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء".
رحل النصف !
فتحت البنوك بعد أزمة استمرت أكثر من أسبوع، وتقاضى موظفو السلطة رواتبهم، ورحل نصف من على الرصيف وبقي 40 ألف يتأملون .. يتساءلون عن مصيرهم بعد إعلان نقابة الموظفين في غزة إعطاء الحكومة مهلة أسبوع لحل أزمة الرواتب وتوقف الاحتجاجات وحرصًا على المصلحة العامة فقد تم سحب عناصر الشرطة من حول البنوك وعودة الأمور إلى طبيعتها بعد التأكد من عدم وجود أي احتجاجات تؤدي إلى الفوضى.
ورغم تعهُّد قطر بتحويل مبلغ 20 مليون دولار على مدار ثلاثة أشهر للمساهمة في حل أزمة رواتب موظفي قطاع غزة" الا أن عدم وجود الضمانات الكافية تزيد خيبة الموظفين حيث مر أبو لطفي من أمام شرطي لم يتقاضَ راتبه كاملًا منذ سبعة أشهر كان منهمكًا في تنظيم طوابير موظفي رام الله وفرحتهم بالأوراق النقدية لحظة استلامها, ليتساءل عن شعور الشرطي وخيبة أمله التي سينقلها لصغاره بجيوبه التي لا زالت خاوية, فقد يبكي الوطن مجددًا على خلفية تلقي النصف لرواتبهم دون النصف الآخر خوفًا من انهيار العلاقات المجتمعية مجددًا !