رام الله – الرسالة نت
لا يستطيع الكثيرون تصديق ذلك، ولكن تجاعيد الوجه وبطء الكلمات و"سرحان" العيون بعيداً إلى تلك الأيام، يشهد على ذلك وأكثر.. فأقوال د. عدنان مسودة أحد مؤسسي حركة حماس وقادتها القدامى، تتشابك مع صورٍ أخفتها عيون الإعلام كثيراً، ودسّتها رغبة النسيان داخل إحدى خلاياها.
في بيته في مدينة الخليل جلس مستعداً لاستذكار الماضي، هو الماضي نفسه الذي حمل بين ثناياه عدة لقاءات بشيخ فلسطين أبرزها في ظروف قاهرة داخل زنازين معتمة، وفي "المسلخ" تحديداً.. وأخرى في ظروف عادية ليلاً ونهاراً وفي رام الله والخليل وغزة..
هي حياة بداية التأسيس وبداية العمل الجهادي، بل هي ذكرى لا يمكن أن تنمحي حتى بصواريخ الفجر على كرسي القعيد، وهي بداية نسج الأمل لصفحة جديدة لا يخدشها الذل ولا الركوع.
الشيخ.. مقيداً!!
في إحدى غرف المسلخ كما يقول مسودة لـ"الرسالة"، كان الكيس الأسود يغطي رأسه ويشد ساعداه إلى الكرسي الذي وضعه عليه ضباط جيش الاحتلال بتهمة التحضير للقاءات ممنوعة.. ويمر الوقت وتتزاحم الأصوات في غرف هذا المكان الأسود، فأحدهم يصدح بالقرآن والآخر بالتكبير والثالث يصرخ ألماً والرابع يستجدي عطفاً.
أما الخامس فالصمتُ قرينه، لم يتعب ولم يملّ، "تُرى لماذا لا أسمع صوت هذا الجسد المكوّم إلى جانبي" تساءل مسودة وعاد يقتل الوقت بالتسبيح، ولكن صمت جاره في الغرفة لم يرق له، "ترى هل مات؟.. من يكون هذا الأخرس؟".. كاد يجنّ من صمته ولو أن الحقيقة هي أن المكان يدفع إلى الجنون، فهذا الهدف الوحيد منه.. عاد للتسبيح.
لم يفلح مسودة في التغاضي عن أمر ذاك الشخص الهادئ، فحاول جاهداً أن يرفع الكيس الأسود عن رأسه حتى يراه ويلمح ماهيته، وما هي إلا دقائق من المحاولات حتى نجح أخيرا "وليتني لم أنجح!".. فجسدٌ هزيل مقعد وُضع على كرسي حديدي قاسٍ، شُدت يداه المشلولتان خلفه إلى الكرسي متدليتان من وراء الحبل دون حياة، ونجت لحيته الممزوجة بالبياض من ظلمة كيس أسود غطى وجهه وعينيه وكاد يقطع أنفاسه الصعبة أصلاً.
هو شيخ فلسطين إذاً.. "كان يعامل مثلنا تماماً، لم يراعوا أنه مقعد ولم يراعوا أن وضعه الصحي في تدهور، ولم يكترثوا لأي شيء، بل وضعوه بقسوة على الكرسي الحديدي وقيدوه بشدة وأبقوه ساعات طويلة متواصلة.. ولكنني استغربت صمته طوال الوقت، فألم وسيلة التعذيب هذه يكون نفسياً ولابد للسجين من الصراخ أحيانا أو حتى التأفف، ولكن الشيخ لم يتكلم ولم يشكُ ظلماً".
برنامج مختلف
تلك الأيام العطشى للحرية حوّلها محبو الشيخ إلى أيام أجمل من كل شيء بانتظار صحبته، فبعد انتهاء التحقيق معه وانتهاء ذلك التعذيب القاسي على جسد مقعد، نُقل الشيخ إلى سجن كفار يونا، وتنافس الأسرى لتقديم طلبات الانتقال إلى ذاك السجن للتعرف على الشيخ عن قرب ومعايشته والأخذ من نبع علمه.
أما هذا السجن فلم يكن عادياً، فهو للجنائيين من الصهاينة ووضع فيه الشيخ ياسين مع اثنين من المرافقين، حتى إذا أغلقت بوابات السجن عليهم، بدأ الشيخ في تنظيم برنامج يومي لا يتحمله الكثيرون من صحاح الأجساد، حيث الاستيقاظ يومياً عند الثالثة فجراً وتلاوة القرآن والصلاة حتى تحين صلاة الفجر، ومن ثم معاودة قراءة كتاب الله حتى تشرق الشمس.
ولم يمنعه الجسد الضعيف ولا كرسيّ الإعاقة عن ممارسة رياضة الجسد، فكان يطلب من مرافقيه أن يمسكوا بيديه ويساعدوه على المشي ويحركوا جسده، ثم يدلكوا ذراعيه فيخجل استحياء منهم ويحاول منعهم من ذلك، ولكن الحب الذي زرعه فيهم كان أكبر من كل تلك الإشارات.. ثم يعود الشيخ إلى غرفته بعد استراحة قصيرة في ساحة السجن، وينكب على تلاوة القرآن والصلاة والتسبيح.
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، فشيخنا حرص على اقتناء الكتب العلمية والثقافية والدينية والأدبية، فيطالع ساعات وساعات يقتل فيها ظلمة الزنازين، وكثيراً ما يحفظ الشيخ ما يقرأه، حتى يطلب من مرافقيه أن يسألوه عن بعض الأقوال أو القصائد فيجيب فوراً أنها في المجلد الفلاني في القسم الفلاني في الصفحة تلك!
ويقول سميح عليوي من مدينة نابلس، أحد مرافقيه في الأسر:" لم نشعر أبداً أن الإحباط تسلل إلى روح الشيخ ولو لفترة بسيطة، وكثيراً ما كان أهله يزورونه ولكنه لم ييأس ولم يحزن، بل كان مرحاً بشوشاً يحب السعادة ويكره الحزن واليأس، كل ذلك رغم إصابته بعدة أمراض والتهابات لم يكترث لها السجانون، ولم يكن الشيخ أيضا يتوانى عن الصيام رغم حالته الصحية".
شهادة عدو وصديق
أحد ضباط جيش الاحتلال الذي عمل سجانا في سجن كفار يونا لم يتوان عن مدح الشيخ ياسين! حتى قال في إحدى شهاداته لبرنامج "دردشات" في تلفزيون دولة الاحتلال:
" الشيخ لم تبد عليه أي من مظاهر الإرهاب أو التفكير العدواني كما كنا نعتقد، كنت أشعر بالراحة لمجرد الوقوف بقربه وأعتقد أن رفاقه شعروا بذلك أيضا لذلك أحبوه، كنت أتابع وضعه في السجن وعلاقته برفيقيه، لقد كان أباً روحياً لأبناء حماس الذين طالما اعتقدت أنهم سيحرقون الأرض إذا مسه مكروه".
واليوم بعد رحيل الشيخ ما زال طيفه يظلل أرواح الأسرى من أبناء هذه الحركة، فمجرد وجود الشيخ يوماً في مكان مثلهم يشعرهم بالطمأنينة والراحة وحب التعلّم والاستفادة من الوقت لا لعنه.
وفي هذا استطلعت "الرسالة" آراء بعض من أسرى حركة حماس، فيقول الأسير جهاد من مدينة طولكرم:" طالما كنت أشعر بالملل والقهر داخل السجن، ولكنني في الدروس اليومية التي نتلقاها تعلمنا سيرة الشيخ الشهيد المؤسس، فأصبحت أكثر صبراً، حتى أنني خجلت من نفسي عندما كان الشيخ المشلول يلاقي السجن برحابة صدر وأنا صحيح الجسد أملّ وأتعب!".
أما الأسير حمزة من مدينة الخليل فيزيد على ذلك:" لست أدري كيف تحمل الشيخ كل هذا العذاب، فنحن نشعر أحياناً بالقهر والتعب، ولكن كل القصص التي رويت عن الشيخ تقول عكس ذلك، وهذا ما يدفعنا للصبر بعد التوكل على الله تعالى"، ويوضح الأسير عدنان من رام الله أن الاحتلال يتعمد إذلال أسرى حركة حماس بمنعهم من ميزات عدة ولكن ذلك لم يجد نفعاً في وأد عزائمهم التي استمدوا معظمها من زعيمهم الروحي.