قائد الطوفان قائد الطوفان

بعد 14 عاما

الطفلة "مريم المصري" تمزق قلب والديها ألمًا

الطفلة مريم المصري (تصوير علاء شمالي)
الطفلة مريم المصري (تصوير علاء شمالي)

غزة _ حمزة أبو الطرابيش

وضعت الطفلة مريم المصري التي لم تتم عقدها الأول  يدها على كتف توأمها محمد وسارت به إلى فناء منزلهما الواقع في حي النصر وسط مدينة غزة، لتمارس لعبتها أم الجريح التي ترعى جريحها، فيما طائرات الاحتلال "الإسرائيلي" ما زالت تغطي سماء القطاع، مع دخول اليوم الثالث للعدوان الهمجي على غزة.

أبو محمد والد التوأم اللذين أبصرا النور بعد ثلاث محاولات زراعة، والذي كلفه ذلك شقاء عشرين عاما من العمل لكي ينعم بهما، كان ينادي بين الفنية والأخرى على طفليه مطالبًا من مريم أن تكمل لعبتها داخل غرفة ألعابها خوفًا أن يصيبها مكروه.

في كل مرة حين ينادي الوالد على مريم تقابله بردها: "يا بابا ما تخاف علينا، بدي ألعب أنا فرحانة مش خايفة من الطيارات".

بقي الحوار دقائق بين رجاء الوالد وحب مريم في اللعب في ذاك الفناء، وعلى حين غرة قطع حديث الوالد والطفلة صوت انفجار ضخم هز محيط المنزل، وأعقبه دخان كثيف وانقطاع في التيار الكهربائي ليعم الخوف والصمت في قلب الوالد على طفليه.

اعتلى صراخ أبو محمد الأربعيني على أطفاله وهرول في فناء المنزل يتخبط في زواياه هنا وهناك لأن الرؤية كانت معدومة لديه. اكتفى فقط بالاستمرار بصراخه "يا مريم..محمد.. وينكم(..)"، بعد دقائق سمع فقط بكاء محمد، ولا صوت يذكر لمريم.

لحظات وانقشع الدخان من المكان، لتكون هنا الفاجعة التي طالت أبو محمد بعد ما وجد مريم ملقية على الأرض مدرجة بدمائها تئن كالحمل الرضيع؛ لتتحول لعبة الطفلة التي كانت تمثل أنها أم الجريح، إلى جريحة على أرض الواقع بعد تلقيها عدًة شظايا في رأسها.

 نقلت الطفلة إلى مجمع الشفاء الطبي وسط المدينة، وبعد تشخيص حالتها من الأطباء هناك تبين أن نزيفا داخليا أصاب دماغها الصغيرة ليدخلوها في غرفة العناية المكثفة، لمحاولة انقاذ ما يمكن إنقاذه، وتصبح روح مريم معلقة بين سريرها الذي تمكث عليه وبين السماء.

في صالة الانتظار بالمشفى كانت " الرسالة نت" على رأس عملها مع زملائها في المهنة في مختلف الوسائل الإعلامية ينقلون أوجاع الأبرياء هناك، سيما أن الطائرات الحربية الإسرائيلية تقصف البيوت على رؤوس ساكنيها دون علمهم.

صرخات الرجل وبكائه الشديد أفزع من كان هناك مرددًا عبارة ألمتهم "أمانة خدو من دمي وعيشوها ما إلي غيرها".

بصعوبة تواصلنا مع والد الطفلة الموجوع لدخوله في حالة هستيرية، على أثرها يتلفظ أنفاسه بصعوبة، ويروي: "لا أعلم لماذا قصفت طائرات العدو محيط بيتنا، بنتي الآن تموت ما ذنبها(..)".

أبو محمد يعمل في أحد المحلات التجارية، سخّر كل أمواله التي حصلها طوال سنين عمله لعمليات الزراعة، ليكرمه الله بعد 14 عاما بتوأمه اللذان أبصرا النور في صيف 2007.

قاطعنا الحديث مع الوالد، صوت الاسعاف الذي جاء مسرعًا، ليخرج جثة شاب كانت كومة لحم متفحمة، قصفته طائرات الاستطلاع عندما كان يستقل دراجته النارية على الأطراف الشرقية من حي الشيخ رضوان.

لم يكمل أبو محمد حديثه بعد تدهور حالته الصحية بسبب حزنه وإرهاقه، لنتواصل مع أخيه الأكبر أبو عوني الذي كان متواجدا بجانبه، قائلًا: "نحاول بالسبل كافة تحويل مريم إلى مشفى بالخارج، لكن لحتى اللحظة لا توجد أي وسيلة تساعدنا لنقلها". 

قصة مريم ليست الوحيدة وهي من بين مئات قصص المعاناة التي تكبدها أهالي قطاع غزة في العدوان المستمر عليهم منذ ثلاثة أيام، فحال الطفل نور حافظ الناجي الوحيد من عائلته بعدما ارتكب الاحتلال مجزرة في بيت حانون، وقبلها بساعات أخرى في خانيونس بحق عائلة كوارع  وغيرها، لتبرهن أن الاحتلال حقق أهدافه فوق أجساد الأطفال والنساء.

صعوبة التنقل في شوارع غزة بسبب تلبد سمائها بطائرات الاحتلال التي لم ترحم بصواريخها أطفالنا الرضع ولا نساؤنا الحوامل ولا شيخ أو صحفي أو سائق ولا حتى الشجر والحجر.

وطلبنا من أبو عوني تزويدنا برقم هاتف والدة مريم لإجراء مقابلة معها.

بكائها الشديد أعاق توصيل معاناتها لكن كان مختصر ما سمعناه عبارتها التي رددتها كثيرًا: "لله ما اعطى لله ما أخذ"، توأم مريم شاركنا الحديث بعد ما أخذ الهاتف من والدته المكلومة قائلًا: " متى بدها تروح مريم عشان نكمل لعبتنا".

وبالرجوع إلى أبو محمد بعدما وجهنا سؤالا له عن آخر ما أخبره الأطباء حول مريم  صمت برهة ثم رفع يديه إلى السماء متلهجًا :"يارحمن اشفى لي أغلى ما أملك".

البث المباشر