أربعة دقائق مدة الوصول إلى حيث المعاناة والألم التي تجلت واضحة على ملامح كل من تواجد داخل أسوار هذا المكان من رجال وأطفال وشيوخ ونساء الذين كانوا يفترشون الأرض جنبا إلى جنب علهم يتناسون آهاتهم المتزايدة ولو قليلا.
مدرسة بنات المأمونية الاعدادية لملمت جراح الكثير من العائلات المشردة من شمال قطاع غزة منذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة لليوم الثامن والعشرين الذي أسفر حتى كتابة هذه السطور عن استشهاد أكثر من 1850 شهيدا , من بينهم 398 طفلا و 207 سيدة و 74 مسنا، واصابة أكثر من 9500 جريح منهم 2744 طفلا و 1750 سيدة و343 مسنا.
عكازها الخشبي
الاقتراب من المكان أكثر فأكثر كفيل بفرط عقد المأساة المتراكمة على ملامحهم ,كما التأمل في وجوههم ولو بنظرة خاطفة يكفي لفهم ما يجول في خواطرهم من معاناة ما زالت صفحاتها مفتوحة.
وهذا ما بدا واضحا على ملامح المسنة الحاجة أم العبد سعد الدين "64عاما", والتي كانت تجلس على كرسي برفقة عكازها الخشبي خارج أحد صفوف هذه المدرسة علها تجد من يؤنس وحدتها .
منطقة السيفة شمال قطاع غزة حيث تقطن الحاجة أم العبد والتي رجعت بذاكرتها للوراء للأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي لتطلع "الرسالة نت" على وجعها وألمها, لتقول:" زوجي كان يجلس على باب البيت عند موعد الافطار ومع اشتداد القصف وصلت القذائف الينا فأصيب زوجي وبدأ صراخنا يملأ المكان".
هول ضرب القذائف على المنطقة ودخولها للبيت كما تتحدث الحاجة دفعهم إلى الخروج مسرعين إلى الخارج والركوب بسيارتهم والذهاب إلى بيت ابنتها في حي الشجاعية حيث كان للأمان معنى هناك قبل بدء المجزرة.
مكوثهم في الشجاعية لأيام قليلة لم يذقهم طعم الراحة والأمن لها ولعائلتها لاسيما وأنها شهدت اجتياحا عنيفا راح ضحيته الكثير من الشهداء, ما دفعهم إلى مغادرة المنطقة فجرا على الفور والبحث عن مدرسة تقيهم من ضربات الصواريخ والقذائف الاسرائيلية .
استقرت هي وعائلتها المكونة داخل اسوار المأمونية في غرفة يقطن داخلها أربعة عشر فردا لأكثر من ستة وعشرين يوما .
ليس ذلك فحسب, فراحة البال وسلامة أبنائها وأقاربها ما تتمناه هذه المسنة في ختام حديثها للرسالة نت, اضافة إلى العودة لمنزلها بأقرب وقت .
وما يقارب تسعين مدرسة تستخدمها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الاونروا" كملاجئ مؤقتة لحوالي 260,000 شخص نازح في مختلف أرجاء قطاع غزة, وفقا لبيان لها.
احتماء هذه العائلات الفلسطينية خلف أسوار هذه المدارس لم تسلمهم من القذائف الاسرائيلية التي استهدفت بعض المدارس كان آخرها قصف مدرسة في رفح من جيش الاحتلال ما أسفر عن استشهاد 10 واصابة 27 اخرين بجراح.
"اصحى يا عباس"
معالم التشرد حينما صعدنا للطابق العلوي لم تختلف كثيرا عما شاهدناه بالأسفل , حيث تكرر مشهد انتشار أحبال الغسيل بالخارج, جلوس النساء خارج الصفوف اضافة إلى تشابه ملامح البراءة والأمل التي اجتاحت وجوه الأطفال .
نجوان السلطان "24 عاما ",من بين العائلات التي خرجت ايضا من منطقة الحدود شمال بيت لاهيا واستقرت داخل أروقة هذه المدرسة , كانت تجلس بصمت تلاعب طفلتها بسمة وعيونها تروي الكثير من المأساة وحكايات الألم الممزوجة بأمل عودة الحياة إلى ما كانت عليه.
الملل واليأس أبرز ما كان ظاهرا على وجه الفتاة التي قالت لـ"الرسالة نت" بنبرة صوت تكاد أن تسمع :"كلنا نفتخر بالمقاومة الفلسطينية التي سطرت أروع معاركها مع الاحتلال منذ اليوم الأول للحرب لكن ما يعكر صفونا ويزيد من يأسنا رئيس السلطة محمود عباس".
نجوان صبّت جام غضبها وسخطها على عباس الذي لم يتحرك كما توضح من أجل انقاذ غزة من الدمار الذي حل بها وبسكانها مع تواصل العدوان الإسرائيلي.
لتقول والغضب ينطق من عيونها :" اصحى يا عباس فهو لا يمثلني، وصمته يدل على ولائه لإسرائيل ولأمريكا وليس لشعبه ومقاومته، التي أعادت لغزة مكانتها وكرامتها امام الشعوب العربية والعالم بأجمعه".
لبساها الأسود الذي كان يغطي جسدها عكس حجم الألم والمأساة على ملامح وجهها طيلة حديثها عن أيام مكوثها في بيتها خلال الأيام الاولى للحرب، وتضيف:" اعتدنا على الهمجية الاسرائيلية فلم نغادر منزلنا منذ بدء العملية العسكرية على غزة , لكن عند قصف فناء المنزل في اليوم العاشر من العدوان بصاروخ زنانة قررنا الخروج على الفور حفاظا على سلامة عائلتي ".
ما يثلج صدر هذه الفتاة كما تقول استبسال المقاومة في الميدان , وصمود الشعب رغم النكبات التي حلت به جراء تواصل جرائم الاحتلال بحقه .
ما يوجع قلبها أثناء مكوثها في هذه المدرسة,’ التشتت العائلي الذي أصاب الألاف من العائلات التي لاقت ذات مصيرها من التشرد والضياع .
كما أن الراحة والنوم والهدوء صفات باتت لا تعرفها وتتمنى أن تزور غرفتها التي تقطن بها هي وعائلتها اضافة إلى أفراد من عائلة أخرى يفصلها عنهم قطعة من الثياب الرثة في ذات الغرفة.
ثقل المعاناة التي ما زالت تمطر على غزة مع تواصل الحرب الاسرائيلية, كانت بعيدا عن أطفال هذه العائلات التي لجأت داخل أسوار هذه المدرسة, فالبسمة لم تفارق وجوههم البريئة.
أما عن لسان حال الشباب والرجال فكان الجلوس على المدرجات وتبادل أطراف الحديث وسماع الاخبار عبر هواتفهم النقالة للاطمئنان عما يحدث خارج أسوار المدرسة .
مشهد كان لابد الختام به لطفل كان يركض مسرعا وبين يديه وجبه طعام من أهل الخير ورغم طلبنا بالحديث اليه الا أنه ابتسم رافضا وقال :"أخوتي بستنوا الأكل".