جال الطفل محمد بدران ثمانية أعوام في أكناف منزله متباهيًا أمام أخوته وأولاد عمه بارتدائه ملابس العيد.
بين الفينة والأخرى يذهب إلى أمه طلبًا منها النزول إلى الشارع ليقاسم فرحته بالعيد مع من هم في جيله.
تحاول الأم بطريقة أو بأخرى منعه، خشية النيران الإسرائيلية التي لا تفرق بين إنسان وطأ غزة دون أي مراعاة لجنسه أو حتى عمره.
اقتنع الطفل بكلام أمه. ولكنه أبى إلا أن يعيش أجواء العيد. وضع مقعدا وصعد عليه معوضًا قصر قامته بجانب نافذة غرفة كان يجلس بها أخوته السبعة، ليشارك أصدقاءه من فوق.
لحظات قليلة بعد أن أطل محمد برأسه من تلك النافذة، لتنهال عليه وعلى أخوته السبعة قذيفتين مدفعيتين انفجرتا في الغرفة أصابتهم جميعًا.
المشهد باختصار في تلك الغرفة "تلطخت الأرضية بالدماء، كانت الأجساد الصغيرة بجانب بعض، منهم من كان يبكي وآخر يئن كالحمل الرضيع".
وجرى نقل الأطفال الثمانية إلى مجمع الشفاء الطبي. كان أخطرها حالة محمد، الذي أدخل إلى قسم العناية المركزة على الفور.
بعد أربعة أيام، استقرت حالة محمد لكن تشوهت معالم وجهه وفقد حبيبتيه "عينيه" وأيضًا لا يستطيع النطق، وأحرق لهيب القذيفة أجزاء من جسده الصغير.
زرنا محمد في المشفى والتقى بأمه وبعض من أشقائه المصابين. تقول أم أحمد بعدما مسحت دمعتها الجارفة "لقد كان طفلي محمد كالوردة، كان الذكاء ما يميزه عن باقي أطفالي".
وتسألت الأم المكلومة عن الذنب الذي اقترفه محمد وإخوته الصغار في حق إسرائيل، "ما ذنبهم أن تقطع القذائف أوصالهم وتحرق عيونهم؟".
لم تتوقف مأساة أم أحمد عند هذا الحد فبعد أسبوع قصفت طائرة بدون طيار زوجها وهو في طريقه إلى المشفى لزيارة أطفاله، ليصعد إلى دار الأخرة على الفور، تاركًا أطفاله الثمانية على أسرّة المرض.
كان محمد متعلقا جدًا بوالده، وكانت آخر زيارة له في المشفى قبل يوم من صعود روحه إلى السماء.
"لا أعرف دموعي أذرفها على من؟ على زوجي الشهيد أم على طفلي محمد الذي لا حول له ولا قوه أو على ابنتي ايمان وحنان". تتابع أم أحمد
بجانب سرير محمد شقيقته ايمان(15عامًا) التي تعاني من تهتك شديد في عظام إحدى قدميها اثر القصف. تتساءل الفتاة بصوت خافت " ليش قتلوا بابا، أخوية محمد انعمى، احنا أطفال شو اعملنا؟؟".
قطع حديثنا مع ايمان صرخات "ألم" سمعت من الغرفة المقابلة التي كنا فيها، لتهرول الأم مسرعة عليها. تبينت أنها لابنتها الأخرى حنان (14 عامًا).
وتعاني حنان من كسور شديدة في إحدى يديها مع مشكلة في الأعصاب من الممكن أن تؤثر على حركتها مستقبلا.
وتتوزع جهود أم أحمد بين الرعاية بمحمد وابنتيها إيمان وحنان، وباقي أطفالها الأربعة التي وصفت حالتهم بالمتوسطة.
وتسببت الحرب الإسرائيلية على غزة بارتقاء نحو 430 طفلا، والتسبب بضرر نفسي لأكثر من 400 ألفٍ آخرين، وفق إحصائيةٍ لوزارة الصحة.
الدكتور أيمن السحباني مدير الاستقبال والطوارئ في مشفى الشفاء قال لوكالة الانباء القطرية _قنا_ في حديث سابق، إن وضع الطفل محمد بالغ الخطورة، وهو من أشد الحالات حاجة للسفر وتلقي العلاج بالخارج ، مضيفًا : " الاحتلال يمنع محمد من العلاج بالخارج ولا نعلم لماذا".
وتمنت أم أحمد في نهاية حديثنا معها أن يتقدم أحد أو جهة ما لإنقاذ ما تبقى له من بصيص أمل وخاصة في ظل حديث الأطباء عن إمكانية علاج طفلها بالخارج.
عل بوابة الغرفة حين نوينا الخروج بعد ما انتهينا من مقابلة تلك العائلة المجروحة، التقينا بالأخصائية النفسية شيماء طالب (29 عامًا) والتي تشرف على حالة محمد صباح مساء.
وكان مختصر حديثها. " محمد غير متقبل أنه سيبقى ضريرًا مدى الحياة (..) حالته النفسية صعبة جدًا".