غزة- فادي الحسني "الرسالة نت"
الجو كان لطيفا..بضعة أمتار تفصل بين انسياب الأمواج الهادئة، ورقعة الظل التي يصقل فيها خمسيني يدعى أبو أشرف الشنطي، القوارب البحرية، كمهنة قضى فيها جل عمره.
يحني أبو أشرف ظهره وهو يدهن بفرشاته مادة لزجة على سطح القارب الذي مضى عليه خمسة أيام ولم ينته من صناعته بعد، ويقول إنه بات في مراحله الأخيرة، لكنه يؤكد أنه مدرج على أجندته عدة قوارب مطلوب صناعتها.
وتمثل القوارب وخاصة قوارب الصيد، مصدر رزق لشريحة عريضة في المجتمع الغزي الذي يعاني من حصار مطبق منذ أربعة أعوام، حيث وصل عدد الصيادين إلى ثلاثة آلاف صياد.
وتصطف على الرمل الأصفر قرابة ميناء غزة، عدد من القوارب الجاهزة للإبحار، كان الشنطي قد صنعها في وقت سابق برفقة عامل أخر يساعده.
لجأوا لشراء
وازدهرت صناعة القوارب في الفترة الأخيرة في القطاع، نظرا لدفع الحصار؛ الكثير من العاطلين عن العمل، للجوء للبحر للعمل كصيادين لتوفير لقمة العيش المفقودة في ظل إغلاق المعابر ومنع إدخال المواد الخام اللازمة لشتى الصناعات.
ويقول أبو محمد وهو صاحب ورشة لصناعة قوارب الصيد الصغيرة، غرب غزة: "إن الكثير من الناس ممن لم يجدوا فرص عمل، لجأوا لشراء "قوارب مجداف" ليقتاتوا منها"، مشيرا إلى أن تكلفة صناعتها تصل إلى ألفي شيكل، أي ما يعادل 500$.
ولم تحتج قوارب الصيد الصغيرة أو ما يطلق عليها (حسكات المجداف) الحصول على ترخيص من قبل وزارة النقل والمواصلات، على عكس القوارب التي تقاد بالماكينات الآلية.
لذلك يؤكد أبو محمد في الثلاثين من عمره، أن الطلب على صناعة قوارب المجداف، يكاد يتضاعف عن السابق (أي ما قبل الحصار)، مشيرا إلى أن الأنفاق ساهمت بشكل أو بآخر في تنشيط عجلة الصناعة التي ركدت لفترة طويلة.
وتزايد في هذه الفترة (أي مع اقتراب فصل الصيف) الطلب على القوارب السياحية الذي بدأ يشق طريقه بين القوارب الأخرى.
يقول الشنطي :"إن ثمة طلب على قوارب النزهة (السياحية) من قبل أفراد أو عائلات أو مؤسسات"، والتي تصل كلفتها إلى ما يزيد عن ألفي دولار، وهو ذات التكلفة التي تحتاجها قوارب الصيد الكبيرة.
والقوارب تتعدد أصنافها: قوارب الصيد، وقوارب نزهة، وقوارب أجرة.
وتعتمد صناعة المراكب على مادة (الفيبر جلاس) والأخشاب، كعنصرين مهمين، ولكن الاحتلال يمنع إدخالها عبر معابر القطاع التجارية الخمسة.
وأبدع صانعو المراكب في غزة، طريقة جديدة لتشكيلها، حيث تمكنوا من تحويل أجسام القوارب التي كانت تعتمد على الأخشاب في تكوينها، إلى أجسام تعتمد على مادة بلاستيكية لزجة تسمى (الفيبر جلاس).
ويقول الشنطي :"هذه المادة هي أقوى وأصلب في مواجهة المياه، من الأخشاب التي ما تلبث أن تهترئ بعد فترة من الزمن".
أما الأربعيني مصطفى مقداد والذي ورث مهنة صناعة القوارب عن والده، فأشار إلى إنه عندما كان في الإعدادية كان يشاهد والده وهو يصنع ما يزيد من نصف القارب من الخشب ثم يكسوه بمادة "الفيبر جلاس"، ويقول: "عملنا اليوم اختلف عن الماضي.. حاجتنا للأخشاب قلت عن السابق".
ويضيف مقداد الذي يتولى إدارة ورشة بالقرب من شاطئ غزة، "الأخشاب تكسر مع مرور الأيام وتذوب، بينما تبقى مادة الفيبر أصلب وأقوى".
إنتاج مركب
ويشتكي صانعو القوارب من تذبذب أسعار المواد الخام، "الذي يتحكم فيه تجار الأنفاق" كما قالوا.
ويتوجه الراغبون في صناعة المراكب، إلى فرع وزارة النقل والمواصلات في ميناء غزة، للحصول على الموافقة على طلب إنتاج مركب، حتى يتسنى للصانع المباشرة في إنتاجه.
ويقول مقداد الذي أمضى ما يزيد عن ثلاثين عاما في صناعة المراكب، :"لا نباشر في صناعة المركب إلا بعد الحصول على الموافقة من قبل وزارة النقل والمواصلات".
وعقب الانتهاء من صناعة القارب يصطحب صاحبه شهادة الإنتاج ويتوجه بها للنقل والمواصلات حتى يحصل على ترخيص المركب، ليتمكن من الإبحار فيه.
ويؤكد عدنان أبو عودة مدير عام ديون وزير النقل والمواصلات، أن وزارته تضع ثمة شروط لامتلاك أي واسطة للإبحار، وقال:"عند رغبة أي شخص في امتلاك أية واسطة للإبحار، يقوم بتقديم طلب لدى الوزارة للتأكد من الشروط الواجب توافرها".
وبين أن شروط امتلاك مركب تختلف من واسطة بحرية إلى أخرى، مؤكدا أنها في مجملها تنص على ضرورة أن تكون واسطة الإبحار آمنة وتتوفر فيها عوامل السلامة والوقاية مثل وجود الإطفائية.
إضافة إلى ضرورة الحصول على موافقة من قبل الشرطة البحرية، وذلك فيما يخص الجانب الأمني.
وأكد أبو عودة أن وزارة النقل والمواصلات عملت على تطوير مرفأ ميناء الصيادين بغزة ليتمكن أصحاب الواسطات البحرية من التعامل معها بيسر وسهولة خاصة خلال الرسو في حوض الميناء.
ولفت في الوقت نفسه إلى أن مثل هذا الإجراء من شأنه أن يزيد من فرصة امتلاك الأشخاص للقوارب، سواء قوارب الصيد أو القوارب السياحية.
ووجد مالكو القوارب ضالتهم في أنفاق التهريب الحدودية-التي تعتبر المنفذ الوحيد لأهالي غزة-إذ تمكنوا من جلب الماكينات الآلية اللازمة لتحريك قواربهم الجديدة، أو للاستعاضة عن ماكيناتهم القديمة المهترأة، ويصل سعر هذه الماكينات إلى 5000 $ .
ملاحقة دائمة
ويعاني صيادو غزة من ملاحقة مراكبهم بشكل دائم، من قبل الاحتلال "الإسرائيلي"، ففي إحصائية صادرة عن الإدارة العام للثروة السمكية بغزة، فإن ما يزيد عن 140 مركبا تعرضوا لإضرار ما بين أضرار كاملة وجزئية منذ حرب العام الماضي وحتى الآن.
وأشارت الإدارة العامة للثروة السمكية إلى أن بعض المراكب صادرتها الزوارق الحربية "الإسرائيلية" ولم ترجعها لأصحابها.
ويسمح لمراكب الصيد في غزة، بالإبحار لمسافة ثلاثة أميال كحد أقصى، من أصل 15 ميلاً، وذلك في إطار تضييق سلطات الاحتلال الخناق على الصيادين.
ورغم ما تحمله صناعة القوارب من حياة لجماد يتحرك فوق سطح الماء، لكنها تحمل في الوقت ذاته لملاك تلك القوارب المخاطرة الكبيرة، جراء الملاحقة المستمرة من قبل الاحتلال، وفي الحالتين يبقى الغزيون يبحثون عن ضالتهم (لقمة العيش، والنزهة) في عرض البحر.