د. يونس الأسطل
( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الآثم وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(النور : 11 )
إن هناك حرباً مشنونة علينا لا تقل خطراً عن الآلة العسكرية الصهيونية، ذلك أن أكابر مجرميها من بني جلدتنا، الذين يتكلمون بألسنتنا، لا يألونكم خبالاً، وَدُّوا ما عَنِتُّم، قد بدتِ البغضاء من أفواههم، وما تخفي صدورهم أكبر، وإذا خَلَوْا عَضُّوا عليكم الأنامل من الغيظ، وإنْ تمسسكم حسنة تَسُؤْهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها.
ذلك أن بعض المواقع الصفراء يَنْسِجون قصصاً ملفقة، وأنباءً لا أساس لها حول كثيرٍ من الرموز القيادية، إنْ في حركة حماس، أو في حكومة أبي العبد هنية، ولا يتورعون أن يختلقوا من الإفك ما يصل إلى حَدِّ القذف في العفة والعِرْض، والظاهر أنه لن يَسْلَمَ من أذاهم أحدٌ، وغاية مناهم أن يلتقطوا خبراً صادقاً أو كاذباً؛ ليصنعوا من الحَبَّة قُبَّة، مثلهم في هذا مثل الشياطين التي تتنزل على كلِّ أفَّاكٍ أثيم، إذْ يلتقطون بعض أنباء الغيب، ويضيفون إليها مائة كذبة، ويلقون بها إلى الكهان؛ ليأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وهم يعلمون. وقد كان من آخر ما أَوْحَوْا به من زخرف القول غروراً أن يشيعوا بين الناس أن الحكومة قد اتخذت قراراً بقائمة جديدة من الضرائب، لا سيما مَاتُورَاتُ توليد الكهرباء، وقد بلغ من جرأتهم ان يُحَدِّدُوا قيمة الضرائب بنحو ستمائة شيكل.
والصحيح أن هذا كذبٌ صريحٌ لا بَيِّنةَ عليه، إنما هو إفكٌ افتروه، وأعانهم عليه قوم آخرون، فقد جاؤوا ظلماً وَزُوراً، وإنْ هي إلا أساطير اكتتبوها، فهي تملى على أعوانهم بُكْرَةً وأصيلاً
والحق أنني لا أستهجن مثل هذا ممن رضي عنهم اليهود والنصارى، فقد اتبعوا ملتهم، واتخذوهم أولياء من دون المؤمنين، فليسوا من الله في شيء؛ لكن المؤلم فعلاً أن يتلقفها كثير من الأميين والعوام، ويشيعوها في المجالس، فَيَلُوكُها الناس، وتصبح كما لو كانت حقائقَ دامغةً، لا تقبل المراجعة والنقاش.
آهِ لو قرأوا ذلك التوبيخ الموجَّهَ للمنافقين ابتداءاً، وللأغرار تبعاً في سورة النساء" وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً " الآية (83).
إن الإشاعة خطر عظيم، سواء كانت نبأ أمنٍ أو خوف، فالأول يدعو إلى الاسترخاء، وترك الحذر، والثاني يورث الارتباك والجُبْن، عندما يقولون: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، أو يعلنون أن فيها قوماً جبارين، وأنَّا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها، فإنْ يخرجوا منها فإنا داخلون.
ولو أن سامعيها ركضوا بها إلى الرسول في حياته، أو إلى أُولِِي الأمر منهم بعد غيابه؛ لعلمه الذين يستنبطونه منهم، وعرفوا ما إذا كانت أخباراً جوفاء للحرب النفسية، أم أنها حقائق نأخذ حِذْرَنا منها، ونقعد لأصحابها كلِّ مرصد.
أما آية النور فتخبر بحادث الإفك، وتبَشِّر بأنه خيرٌ لنا، ومن الخطأ أن تحسبوه شراً لكم، ثم تضع جملةً من الآداب في التعامل مع مثل تلك الشائعات.
ذلك أنه بعد الانتصار على بني المصطلق كان رأس المنافقين قد ضاق ذرعاً بذلك الإنجاز، فانتهز مُشادّةً بين خادم لعمر بن الخطاب وأحد الأنصار عند ماء المريسيع، فأثار فتنةً، الأمرُ الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلن الرحيل، وأن يُغِذَّ السير في ساعةٍ لم يكن يظعن فيها عادة وقد ترتب عليه أن يَذَرَ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سهواً، ولم تستطع اللحاق بهم إلا في ضُحى اليوم التالي بمعية دابر القوم صفوانَ بنِ المعطِّل رضي الله عنه كذلك؛ فإذا برأس النفاق يقول: هذه زوجة نبيكم تَبِيتُ مع رجل من المسلمين، فو اللهِ ما خلتْ منه، ولا خلا منها، يريد به أنهما وقعا في باطن الإثم، فهو بهذا قد قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، بل والطيبات الطاهرات، فقد تَأَذَّنَ ربُّنا لَيُذْهِبَنَّ الرجس عن أهل البيت، ويطهرهم تطهيراً، وقد تلقَّفَ ذلك الإفك رجالٌ ونساءٌ وصار حديثَ المجالس؛ بسبب تراخي الوحي شهراً كاملاً، حتى أنزل الله جل وعلا براءتها وحياً يُتْلى إلى يوم القيامة.
لقد كانت فرصة ليرسخ عقيدة القَدَر في النفوس، إذْ لا يقضي الله قضاءً للمؤمن إلا كان خيراً له، ومن هنا فقد نهانا أن نعتقد أن تلك الإشاعة شَرٌّ لنا، بل هي خير لكم، فما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب، ومن الضروري أن يمتاز المنافقون وضعاف الإيمان والتربية، فإنهم لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً، ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة، وفيكم سَمَّاعون لهم.
وقد كان من عدله سبحانه أن يجعل إثمهم درجات، فلكل واحدٍٍ منهم من الإثم بمقدار خوضه مع الخائضين، وأما الذي تولى كبره منهم، وهو ابن سلول، فله عذاب عظيم، وهذا من أنباء الغيب، ومعجزات النبوة، إذْ ينطوي هذا الوعيد على الإخبار بأن ابن سلول لن يتوب حتى يموت، فيكون في عذاب عظيم؛ ذلك أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، ولن تجد لهم نصيراً، وقد مات على نفاقه بعد غزوة تبوك وفضح المنافقين بسورة التوبة.
ثم عاتب القرآن المُنَزَّل بالحق جميع الخائضين بأنه كان الواجب إذْ سمعتموه أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً، وذلك بأن يقيسوا أنفسهم على أم المؤمنين عائشة؛ هل ترضى آحاد النساء بالفاحشة لو كانت مكانها؟، وهل يرضى أولئك السابقون الأولون بفعلها لو كانوا في مكان صفوان، وإن ذلك هو ما صنعه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه حين سأل أُمَّ أيوب: لو كُنْتِ مكان عائشة أكنتِ فاعلة؟، قالت: لا، قال فإن عائشة خير منكِ، وفي رواية: وإن صفوان خيرٌ مني.
لقد كان الواجب أن نقول: هذا إفكٌ مبين، فهلَّا جاؤوا عليه بأربعة شهداء، فإذْ لم يأتوا بهم فأولئك عند الله هم الكاذبون.
ثم أخبر سبحانه أنه لولا أن تداركهم بفضله ورحمته في الدنيا والآخرة لمسَّكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم؛ لأنكم تلقيتم النبأ الفاسق بألسنتكم لا بعقولكم وقلوبكم، ثم قلتم بأفواهكم ما ليس لكم به علم، وتحسبونه هَيِّناً، وهو عند الله عظيم، وهلَّا إذْ سمعتموه قلتم ما يجوز لنا أن نتكلم بهذا، سبحانك هذا بهتان عظيم.
إن المنافقين قد بَيَّتوا –بنسبة كبائر الإثم والفواحش إلى عائشة رضي الله عنها- أن يضربوا الإسلام في مقتل، فهي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ابنة أبي بكر رضي الله عنه، ثم إنها أمُّ المؤمنين جميعاً، لكن الله عز وجل لا يهدي كيد الخائنين، ولا يُصلح عمل المفسدين، وسيعذب المنافقين مرتين، ثم يُرَدُّون إلى عذابٍ عظيم، إلا الذين تابوا، وأصلحوا، واعتصموا بالله، وأخلصوا دينهم لله، فأولئك مع المؤمنين، وسوف يؤتي الله المؤمنين أجراً عظيماً، كما في سورة النساء ( 146).
إن جرائم السلطة، وعمودها الفقري حركة فتح، لم تتوقف عند حَدِّ الإشاعة والبهتان، بل إن التعاون الأمني مع الاحتلال على أشدِّه، وقد تمكن مؤخراً بفضل ذلك التعاون من اصطياد كثيرٍ من القادة، وحسبنا الشهيد المبحوح مثالاً للاغتيال البعيد، هناك في دبي بعد عشرين سنة من الملاحقة، ثم القائد المجاهد ماهر عودة مثالاً للاعتقال بعد عشر سنين من المطاردة في الداخل، وقد أثنى قادة الصهاينة على السلطة مؤخراً في دورها في قمع مدن الضفة الغربية، وبالأخص مدينة الخليل التي تظاهرت احتجاجاً على السياسة اليهودية باختطاف الحرم الإبراهيمي بالكلية، وإقامة كنيس الخراب بمحاذاة المسجد الأقصى، والسعي للسيطرة على المسجد الأقصى تمهيداً لإقامة الهيكل مكانه، فضلاً عن سياسة التقتيل والتشريد بهدف التهويد لكامل بيت المقدس، والاستيلاء على الضفة الغربية بالمستوطنات، وإن جميع ذلك يجعلنا نصدق ما نشرته صحيفة الديار اللبنانية من وجود مفاوضات مباشرة مع العدو في إحدى العواصم الأوروبية منذ شهرين، وهي لا شكَّ أهون من التعاون الأمني المباشر الذي لا يتوقف أبداً.
وحسبنا الله، ونعم الوكيل.