أوّل مجنّدة في كتائب القسام

أحلام التميمي.. حُبٌ بالمحكمة وخطبةٌ في الأسر وزواجٌ بالغربة

الأسيرة المحررة أحلام التميمي وزوجها نزار التميمي
الأسيرة المحررة أحلام التميمي وزوجها نزار التميمي

عمان- غزة - حاورها محمد أبو زايدة

نطق القاضي الإسرائيلي بالحُكمِ المؤبّد على الفلسطيني نزار التميمي، فلم تتحمّل والدته الصدمة، وخرجت روحها للسماء في قاعة المحكمة، وكانت عينا فتاةٍ لم تبلغ الثالثة عشرة من العمر ترقب المشهد عن كثب، وتسلّحت منذ تلك اللحظة بقراءة تاريخ الأرض، وترسيخ حكايات الأجداد، ثمّ قررت أن تكون صوتًا يصرخ في وجه الظلّم.

كبُرت الطفلة التي دومًا تناديها العائلة بالمثل الفلسطيني الشهير "آخر العنقود؛ سُكّر معقود"، وفي كلّ عامٍ يزداد في قلبها الحقد على كُلِ من استوطن "فلسطين" متجنسًا بالهويّة الإسرائيلية، لا سيّما أنّ عائلتها حُرِمت من أرضها عقب النكسة الفلسطينية عام (1967)، فهُجّرت من قرية النبي صالح شمال غربي رام الله؛ إلى مدينة الزرقاء بالأردن.

كانت تتسمّر أمام المذياع الذي زفّ نجاحها في الثانوية العامّة، وبعدما سمعت نتيجتها قالت والفرحة تغمرها: "اليوم ستدرس أحلام التميمي الصحافة والإعلام، وسألتحق بجامعة بيرزيت، وأحقق حُلمي المنشود".

عائقٌ وقف أمام تحقيق أحلام لحُلمها، وهو "كيفية دخولها فلسطين، وهي تقيم في الأردن"، لكنّها تغلّبت عليه بعدما حصلت على تصريح زيارة لمدّة (3 شهور).

  الخطوة الأولى

وفي السابع والعشرين من رمضان عام 1998، تنفّست التميمي عبق فلسطين، ووقفت على أرضها تجدد الوعد أنّها "ستكون وفيّة بقدر حُلمّها الذي روته من مشاهدتها لألمِ والدها الذي تعود جذور معاناته لعام 1967".

"كان والدي يشارك في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، مع الجيش الأردني عام 1967، وشارك بعد عامٍ بمعركة الكرامة، وتفجّر خلالها لُغمٍ في قدمه، وما زال يُعاني تبعاته حتى اليوم وقد بلغ من الكبر عتيّا"، تقول الأسيرة المحررة أحلام التميمي.

ولأنّها تحمِل ذكرياتٍ تجذّرت في خلدها عبر مراحل متعددة، قبِلت أن تكون "في ضيافة الرسالة"، وتروي مشاهد تتزاحم في دهاليز الذاكرة، وتنفض الغبار عن قصصٍ عايشتها مع قياداتٍ فلسطينية.

تعود بذاكرتها إلى طفولتها، وترتسم ابتسامة على وجنتيها مشتاقةٌ لجلوسها في حضن والدها، ومشاهد انتظاره عقب عودته من بقالته مصطحبًا لها "بعض العصائر، والشيبس، والحلوى".

تقول: "وُلدت بالعشرين من يناير عام 1980 في بيتٍ يتحدث دومًا عن الوطن والجهاد، وعشنا تبعات التفرقة والعنصرية في الشتات حتى يومنا الحاضر".

وبعدما كبُر عودها، التحقت أحلام بجامعة بيرزيت لدراسة الإعلام، وأضحت تُعايش الواقع الفلسطيني عن قرب، وتوثّق جرائم الاحتلال بالصورة، وكان أوّل توثيقٍ لعدستها عام 1999 عقب مظاهرة مناصرة لإضراب الأسرى، تصف المشهد قائلة: "استشهد في حينها أحد الشباب أمام عيني، وزاد الحقد عقب هذه الحادثة في قلبي على الاحتلال".

  بداية الجهاد

وعلى عتبات "بيرزيت" عام 1998، رفعت أحلام بصرها اتجاه السماء، ورددت دعوتها "اللهم إنك تعلم أن نيتي في الجهاد لوجهك وفي سبيلك؛ فيسر أمري"، وأكملت مسيرتها التعليمية، إلى أن ساقها القدر مع بدء انتفاضة الأقصى في أيلول عام 2000، لتنخرط في العمل المقاوم.

تردف: "مع بدء انتفاضة الأقصى، شعرت أنّ الله ترجم دعواتي لتصبح حقيقة على أرض الواقع، فقد كُنت أعمل في الميدان ولا أبالي بالعواقب، وأشحذ همم المنتفضين، وأقودهم للنزول إلى نقاط التماس مع الاحتلال، وأشعل إطارات السيارات ليداري دخانها على شباب الحجارة من القناصة الإسرائيلية".

شد نشاط التميمي انتباه أفراد القسّام، فقد كانوا يرون فيها "قيادة نسوية"، لا سيّما أنّها كانت تعمل آنذاك في مجلّة "الميلاد"، -وهي مختصة بالتحقيق في قضايا فساد مؤسسات ووزارات السلطة الفلسطينية-، كما أنّها حصلت على عضوية نقابة الصحفيين، ما سهّل دخولها للقدس دون أيّ شكوكٍ أمنية، إضافة لامتلاكها الجنسية الأردنية.

وبعدما ارتأت قيادة القسّام أنّ التميمي قد اجتازت جميع اختبارات القبول لديها، أخضعها القسامي -محمد دغلس-لمقابلة، وعرض عليها العمل في صفوف الكتائب، وترجمت موافقتها عبر دمعاتٍ انهمرت دون إرادتها، وتُعقّب على ذلك: "كان دخولي لهذا الجناح حُلمًا بعيد المنال".

"كُلّفت بعمل جولاتٍ استكشافية في أنحاء القدس وتنفيذ عملياتٍ استشهادية"

  دمعات طريق للقسام

بدأت أحلام تنسج شبكة علاقات مع خليّة القسام بالضفة المحتلة التي كان يرأسها -الشهيد أيمن حلاوة-، والتقت بلال البرغوثي والذي بدوره جنّد أمير الظل -عبد الله البرغوثي-، ولكنّها بقيت بانتظار مباشرة العمل بأمرٍ من الشيخ المؤسس لحركة حماس أحمد ياسين بغزة، كونها "أوّل فتاةٍ في صفوف الكتائب".

وبعد انتظار؛ وصلت موافقة من الشيخ ياسين على تجنيد التميمي، وعلى الفور أوكلت المجموعة إليها عدّة مهام، منها "عمل جولاتٍ استكشافية في أنحاء القدس، وتحديد أماكن مناسبة بعد دراساتٍ ميدانية لتنفيذ العمليات"، واستمرّت على ذات النهج حقبة من الزمن.

أثبتت أحلام نجاحها وقدرتها على تحمّل الأعباء الموكلة إليها، فوصلها تكليف فيما بعد بتنفيذ العمليات الاستشهادية، واصطحاب الاستشهاديين إلى الأماكن التي أجرت عليها الفحوصات الأمنية والميدانية.

  انتقام للجمالين

وفي الحادي والثلاثين من يوليو تموز، عام 2001، قصفت طائرات الاحتلال مكتبًا تابعًا لـ"حماس" في مدينة نابلس، استشهد على إثره القياديان في الحركة "جمال منصور، وجمال سليم"، فقررت كتائب القسام أن تنتقم لاغتيالهما في اليوم التالي مباشرة، واختارت مكانًا كانت قد رصدته أحلام.

تقول: "أعدّ المهندس عبد الله البرغوثي عبوّة متفجرة، كانت عبارة عن زجاجة بيرة كبيرة، بها مؤقت ينفجر على رأس الساعة، ولها مكبس للتوقيت، واستلمتها من محمد دغلس الذي كان حلقة الوصل بين أفراد المجموعة، وأخبرني بكيفية استخدامها".

ومع اقتراب موعد التنفيذ، اتجهت أحلام إلى سوبر ماركت "كنج جورج" بالقدس المحتلة، وأخفت العبوة المتفجرة في أحد زواياه، واشترت بعضًا من الحلوى وكأنّ شيئًا لم يكن، وغادرت المتجر مبتسمة، وكلّما خفق قلبها سعادة تناولت من الحلوى التي اشترتها، وهي تعدّ الدقائق التي تسمع بها صوت الانفجار.

"قابلت القاضي بابتسامة ساخرة بعدما أطلق حكمًا عليّ بالمؤبّد (16 مرة)"

أقلّ من ساعةٍ فصلت بين أوّل قطعة حلوى تناولتها أحلام وصوت الانفجار، ومع وصولها لسكنها سارعت لمشاهدة الأخبار، واطمأنّ قلبها بعدما تأكّدت من نتيجة العملية ومصرع مجموعة مستوطنين، وإصابة العشرات بجروح.

 وجع في العُمق

وبعد ما يقرب الشهر، رصدت التميمي مكانًا "موجعًا" لتنفيذ عمليةٍ جديدة، ووقع الاختيار على الاستشهادي عز الدين المصري، والذي أصرّ على أن "ينتقم لدماء الفلسطينيين"، ويكون صاحب التنفيذ.

تقول أحلام: "ظُهر التاسع من شهر آب/أغسطس عام 2001، تمّ تجهيز المصري واصطحبته لمطعمٍ إسرائيلي يدعى "سبارو" في قلب مدينة القدس المحتلة، وكانت طريقة التفجير هذه المرة عبر قيثارة".

وبعدما تواجد المصري داخل المطعم فجّر نفسه وسط حشد من المستوطنين، موقعاً 15 قتيلاً إسرائيليًا، وأكثر من 122 مصابًا جراح العشرات منهم وصفت بالخطيرة.

تتابع: "في كلّ خطوةٍ أسير بها اتجاه تنفيذ العمليات، كنت أشعر بالقرب من الله، (..) وأكثر ما شدّني في تلك المرحلة، شخصية الاستشهادي عز الدين المصري، فلقد أثّر على نفسي بالبنية الدينية، وزادني قربًا من الله، وعلمني دون أن يعلم معنى التضحية وصدق الشوق للرحمن".

  اعتقال وسخرية

وأثناء عودة التميمي إلى رام الله، تمّ تعقّبها ورصد تحركاتها، وأحاطت بها جيبات الاحتلال من جميع الجهات، واقتادوها إلى زنازين المسكوبية، واستمر التحقيق معها (43 يومًا)، تقول عنها: "لاقيت صنوف العذاب جسديًا ونفسيًا، ولم يفرق السجّان بين ذكرٍ وأنثى في معاملته، سوى أنّه أراد الانتقام، ثمّ تحولت إلى سجن الرملة الصحراوي".

وعندما وقفت التميمي أمام قاضي المحكمة الإسرائيلية، ألقى عليها حُكمه بالسجن المؤبّد (16 مرّة)، أي (1584عامًا)، مع توصية بعدمِ الإفراج عنها في أية عملية تبادل محتملة للأسرى، واستقبلت الأمر بابتسامة أثارت غضب القاضي.

وعندما سألها عن سبب الابتسامة، أجابت بنبرةٍ يكسوها الغضب، مشيرة بأصبع سبابتها اتجاهه قائلة: "أنا لا أعترف بشرعية هذه المحكمة أو بكم، ولا أريد أن أعرّفكم على نفسي باسمي أو عمري أو حلمي، أنا أعرّفكم على نفسي بأفعالي التي تعرفونها جيداً".

وتابعت: "في هذه المحكمة أراكم غاضبين، وهو نفس الغضب الذي في قلبي وقلوب الشعب الفلسطيني وهو أكبر من غضبكم، وإذا قلتم إنه لا يوجد لديّ قلبٌ أو إحساس، فمن إذاً عنده قلب، أنتم؟ أين كانت قلوبكم عندما قتلتم الأطفال في جنين ورفح ورام الله والحرم الإبراهيمي، أين الإحساس".

وعن ثاني ابتسامة تحد تخبرنا بحكايتها أحلام، موضحة أن كواليسها كانت داخل سجن "الشارون"، حيث نعتها أحد الجنود بالقاتلة، وعند استفسارها عن سبب الهجوم اللفظي، أظهر حقده، وعيناه تقدحان شررا، وأردف: "قلبك أسود لا يعرف الرأفة، وتستحقين الموت كل لحظة".

"في كلّ خطوةٍ كنت أسير بها اتجاه تنفيذ العمليات، كنت أشعر بالقرب من الله أكثر"

وما كان من ضيفتنا إلّا أن أسمعته ضحكة ساخرة بأعلى صوتها وغادرت المكان وتعقّب على الحدث بالقول: "كانت ضحكتي بمثابة انتصارٍ أمامه، فقد استشاط غضبًا".

وعاشت التميمي تجربة داخل السجون استمرّت فيها عشر سنوات ونصف، وشغلت منصب عضو في الهيئة العليا لأسرى "حماس"، وخرجت من الزنازين خلال صفقة وفاء الأحرار التي جرت بوساطة مصرية وضمّت 1047 أسيرًا فلسطينيًا مقابل الأسير الإسرائيلي الجندي جلعاد شاليط، وذلك في الثامن عشر من أكتوبر عام 2011، وكان عمرها بعد تنسّم الحرية (31عامًا ونصف).

 حُريّة وزواج

وعن تجربتها داخل السجون، تخبرنا أنّ "الاعتقال موت بطيء، وقهر متواصل، ومهما حاولت أن تصنع لنفسك من أشكال الفرح والصمود، لكنك لن تستطيع أن تعطي نفسك الحرية الجسدية".

وأثناء سير موكب الأسرى المحررين صوب بوابة معبر رفح؛ توقّف لرئيس أركان كتائب القسام أحمد الجعبري، وكان في لحظةِ استقبال المحررين بنظراتِ الطمأنينة، وترديد عباراتِ الحمد أنّه أدّى الأمانة، وهذا ما جعله في نظر التميمي "شخصية خارقة".

كانت لهفتها الوحيدة بعد التحرر، أن تعود إلى بيتها في الأردن، وتقبّل أقدام والدها التسعيني، وتبقى في خدمته حتّى آخر أنفاسها في الدنيا.

وعند سؤالها عن حياتها الزوجية، تبسّمت فخرًا، واستطردت: "كانت تُعجبني شخصية ابن عمّي نزار التميمي، والذي غيّر مجرى حياتي أثناء محاكمته على خلفية قتله لضابط إسرائيلي".

وفي عام 2005 جهّزت أحلام وكالة قانونية لوالدها بعدما اتفقت مع نزار على الزواج، وتمّت خطبتها وهما في الأسر، وسمح الاحتلال لهما باللقاء الأوّل لمرة واحدة لم تتعدَ الساعة الواحدة عام 2010، وكلاهما خلف لوحٍ زجاجي، وكاميرات مراقبة وأجهزة تنصّت تحيط بهما.

"لاقيت صنوف العذاب جسديًا ونفسيًا، ولم يفرق السجّان بين ذكرٍ وأنثى في القسوة".

وتعيش حاليًا أحلام حياة هانئة برفقة شريك حياتها -نزار-في منزلٍ بسيط بالأردن، بعدما تكوّنت حلقته بحُبّها له في قاعة المحكمة أثناء نطق القاضي بالحكم، وتمت خطبتهما بالأسر، وتزوجا بالغربة، حيث يكمل زوجها البكالوريوس في العلوم السياسية، بينما تعمل هي في فضائية القدس.

تتحدّث عن زوجها بأنّه: "نبض الفؤاد الذي من أجله ما زالت تتنفس متأمّلة بجمال أيّامها المقبلة"، مشيرة إلى أنّها لم ترزق بأولاد حتى الآن، متممة أربع سنواتٍ على الزواج من نزار.

لم تتسع السطور للحديث عن حكايات أحلام التميمي والتي تركتها في أمانة "الرسالة"، لكنّها وعدت خلال ضيافتها أنّها تؤسس لإخراج الأحداث التي قضتها خلال مسيرتها في قالبٍ روائي، عنونته بـ "رحلة نحو الله".

البث المباشر