قائد الطوفان قائد الطوفان

"برمودا المتوسط" يبتلع تايتانيك المهاجرين

الرسالة نت- محمد أبو زايدة

على ركام بيتِ أهلها كان الوداع الأخير. ونظرتها الراحلة ألقتها صفية على قطعة الأرض التي ورثتها وابتاعتها لتهاجر إلى "أرض الله الواسعة"، بعدما ضاق بها الحال ذرعًا. قبّلت جبين أمها وشدّت الرحال إلى زوجها الذي كان ينتظرها بالعريش المصرية.

استقلت صفية اللّحام مركبًا برفقة زوجها علاء شعث، وطفليها براء (3 أعوام)، وإسراء (10 شهور)، مصطحبين ما يقتاتون به لمسافة السفر البحرية التي قدّرها لهم المهربين بـ(5 أيام)، وبعد الساعات الأولى نادى ربان "قاربهم"، كُل الأمتعة ألقوها في البحر، فحملُكم كبير، يزداد عن 400 مهاجر.

"لم يكتفِ المهربون بالأمتعة، بل أجبروهم على إلقاء الطعام داخل البحر، ولمدة تزيد عن ثلاثة أيام بلا طعامٍ أو شراب، سوى حباتِ تمرٍ حملها بعضهم في سترات النجاة من الغرق". معلومات نقلها أحد الشباب الذين وصلوا إيطاليا، لعائلة شعث عبر الهاتف.

كواليس الهجرة

الأم تتحدث بلهفةٍ على الهاتف مع شكري العسولي –أحد الناجين من مراكب الموت-، وتنتظر ليطمئنها عن أفراد عائلتها، فيكمل التفاصيل قائلًا " استمرينا حتى طلبوا منا أن نترجّل إلى قاربٍ صغير لا يكفي نصفنا، وذلك وفق خطط الهجرة المتبعة لديهم، لكننا رفضنا المثول لأوامرهم".

يتابع حديثه " رحلوا لـ (45 دقيقة)، ثم عادوا وعددهم ستة أشخاصٍ يتحدثون المصرية، بدأوا بشتمنا والصراخ والاستهزاء بنا ونحن في المياه الاقليمية لا نستطيع أن نجاريهم، لكنّهم سيّروا مركبهم تُجاهنا واصطدموا بالقارب الذي على متنه (400 مهاجر)".

هنا، توقفت أم علاء عن رواية المكالمة الهاتفية، وبدأت معزوفة الشجن المتمثلة في بكائها والمختلطة بالدعوات تأخذ مجراها، فمسحت بأطراف أناملها تحت جفونها، لتأخذ تنهيدةً من وسط البكاء، وتقول " قلبوا المركب ومن عليه، والأطفال تبكي وتغرق، والنساء تنوح، والرجال تبحث عن أنفاسٍ تلتقطها لتساعدهم في البقاء لدقائق إضافية أملًا في وصول طواقم انقاذ".

لم تصل طواقم الإنقاذ، واستمر الحال لأيامٍ والجميع "نفسي ..نفسي"، وكان العسولي قد استمر بالسباحة ليومين متتاليين لينأى بروحه عن الموت المحقق، يقول " رأيت الجميع يصارع الموت، الأطفال والنساء غرقوا بسرعة، وبعض الرجال كذلك، وثمانية هم الذين استطاعوا السباحة حتى وصول سفنِ شحنٍ رأفت بحالهم وأنقذتهم".

"عزاء" على الركام

عائلة شعث فتحت بيت عزاءٍ لفقيدهم وأسرته في مدينة خانيونس جنوب القطاع بعد تأكد نبأ غرقه وأسرته، وعائلة اللّحام لم تجد بيتًا لها بعد قصفه من قوات الاحتلال "الإسرائيلي" خلال العدوان الأخير على غزة، فنصبت خيمة عزاءٍ فوق الركام الذي ألقت عليه صفية نظرة الوداع.

"الرسالة نت" زارت عائلة اللّحام، والتقت بأسرة صفية، التي عقدت قرانها على الانتظار منذ السادس من سبتمبر/أيلول، وهي تترقب أخبارًا تطمئن قلبهم عن نجاتهم، ولكن.. لا مجيب.

"بسام" شقيق صفية الأكبر، يقول " فتحنا بيت عزاءٍ على ركامِ بيتنا الذي دمّرته "إسرائيل" بعدما تأكدنا من الناجين، غرق علاء وزوجته وطفليهم".

يجلس على أحد الكراسي تحت سقفٍ من النايلون منه ملجأ ومقر سكنٍ للعائلة، وأيضًا بيتُ عزاءٍ، وعيناه تنظران حيث قطعة الأرض التي باعتها شقيقته صفية، لتؤمن (10آلاف دولار أمريكي) ثمن بطاقات التهريب إلى إيطاليا، لكنّهم اشتروا الموت.

" ودّعتنا، وذهبت بتحويلة طبية كمرافقة مع شقيقتي الأخرى التي تشكو من مرض السرطان، إلى مصر، لتلتقي بزوجها الذي حصل على تحويلة علاج للخارج، وكانت نقطة الالتقاء بالعريش" يتابع بسّام حديثه " وصّلهم المهربون إلى ميناء الاسكندرية، ومن هنالك كانت بداية مسيرة الموت".

مجبرًا..هاجر

"الرسالة نت" ذهبت لأداء واجب العزاء بمنزل عائلة شعث، ومعرفة أسباب الهجرة التي أجبرت علاء وأسرته على الاقتناع بها. استقبلنا الستيني "ناجح"-رب الأسرة"، والشيب يملأ رأسه، شاكيًا قسوة الأيام على أبنائه، وتحجر قلوب المسؤولين أيضًا.

يقول " علاء متخرج من جامعة القدس المفتوحة كـ"معلم صف"، لكنّه يعاني من مشكلة في جسده، تكمن بعدم افرازات جسمه للعرق".

رب الأسرة طلب من ابنه تقديم أوراقه في كل المؤسسات التي من الممكن أن تفتح فرصة عملٍ له، " وذهبت للمسؤولين موضحًا حالته الصحية، وطالبًا وظيفة تراعي مرضه". يقول ناجح.

كثرة الخريجين في غزة حالت دون ذلك، ما أجبر رب الأسرة التفكير بمصدر دخلٍ لابنه ليعتاش منه وعائلته، فاستدان من جيرانه وأحبابه مبلغًا من المال يقارب الـ(4000 $)، وأكمل الباقي بعد طلب زوجته صفية ببيع ذهبها، واشترى سيارة وعمِل سائقًا.

 تقول أم علاء، " كان يذهب لعمله من السادسة صباحًا حتى العاشرة -قبل اشتداد حرارة الشمس-، ويكمل بعد العصر حتى العاشرة مساءً (..) كلما يعود للمنزل يرتمي على بلاط البيت ويسكب الماء المثلج على جسده ليبرد من حرارته".

 أغلقت معابر قطاع غزة، واشتد الخناق، وارتفع سعر البنزين أضعافًا، والسيارة لم تعد تؤتي ثمارها لشدة العطل فيها، وعدم مقدرته على سعر الوقود، وبقي يفكر في طريقةٍ يوظف خلالها "شهادته العلمية" في عملٍ له.

تتابع الأم حديثها " كان أفضل حلٍ بنظره، أن يذهب إلى دولةٍ باردة الطقس، تتناسب مع مرضه، ويعمل بها، لا سيما بعد عزوف المسؤولين عن تشغيله".

هاتف علاء شقيقه المقيم في ألمانيا، وأخبره بنيته الهجرة إلى إيطاليا، ثم بتنسيقٍ معه يصل لأخيه، ويمارس عمله. طلب من زوجته أن تهيء نفسها، وبدأ مشوار بحثه عن أموال الهجرة منه مقابل إيصاله لشواطئ إيطاليا، لكنّ زوجته قدّمت قطعة الأرض التي ورثتها من أهلها، ليتصرف بها زوجها كيفما يراه مناسبًا، ويؤمن ثمن تذاكر (الموت).

تايتانيك

المهربون، أخبروهم أنّ المركب "كبير ومن طابقين"، مشبهينه لهم بـ"تايتانيك"، لكنّهم تفاجأوا بعكس ذلك، فالمركب أصبح "قارب"، والطابقين باتوا " هباءً منثورًا".

"اتصل بي وهو في ميناء الاسكندرية، وأخبرني أن الاتصال سينقطع، وبعد 5 أيام سيهاتفني من إيطاليا ليطمئنني بوصوله لبر الأمان" تقول الأم وتضيف وهي ما زالت تبكي طيلة جلستنا التي استمرت نصف الساعة " ضحكوا عليهم، وأغروهم بالحياة في بلاد الغرب، وبنصف البحر ألقوهم، ولم يرأفوا بحالهم أو يرق قلبهم لبكاء طفلٍ صغير".

تستحضر الأم أحاديث ما قبل الهجرة مع ابنها. ترفع يديها للسماء وهي تلهج بـ " حسبي الله ونعم الوكيل على كل من قصده وما ساعده، وخلاه يفكر بالهجرة" ، ثم تكمل والدموع في عينيها " علاء خريج جامعة، وفي ذات يوم أقسم أنه يستكفي بـراتب (500 شيكل) شرط أن تكون وظيفة تراعي مرضه.

وعلى سيرة أحفادها الصغار (براء وإسراء)، تضع كفتي يديها على وجهها وتغمض عينيها، مستحضرةً آخر مشهدٍ لهما، تقول " كان يأتيني في الصباح الباكر، ويطلب مني أن نفطر سويًا، وبعد الأكل ينشد لي "يا طير الطاير يا مسافر على الديرة".

أغاني الصغير بقيت عالقة في أذن جدته، لتدخل عمّته أميرة (24 عامًا)، وتخبرنا أنّ براء كان يخشى البحر، ويبكي مع كل "طشة" تكون في أحد أيام الأسبوع، لكنّه لم يدرِ أن نهايته ستكون غرقًا فيه، يبتلعه مثل "مثلث برمودا" لم يُعثر على جثته هو وعائلته حتى اللحظة.

وعن سؤالنا لها إن كان خبر وفاتهم مخالفًا، وأعلنت الجهات الرسمية أن علاء ما زال على قيد الحياة، قاطعتنا الأم وهي تقول " لو لحاله الناجي بدون مرته ما بدي يعيش، يا بيرجعوا الاتنين سوا، يا بيستشهدوا سوا (..) لو أعيش كمان 100 سنة ما راح ألاقي متل هادي الكنّة".

البث المباشر