احتضنت الجدة "حليمة البطش" من اجتمع حولها من أحفادها الذين لجأوا إلى منزل جدتهم، علّه يكون أكثر أمانًا وأبعد عن مرمى آلات الحرب "الإسرائيلية" الطاحنة.
بدأت تتلوا عليهم آياتٍ من القرآن وهم يُشاركونها فيه، في محاولةٍ منها لبعث الطمأنينة في قلوبهم الصغيرة، والتي أرهقتها كثرة الحروب وأرعبتها أصوات الانفجارات التي تُسمع في كل حين.
ما أن سمعت العائلة إعلان كتائب القسام بأن الدقائق المقبلة ستشهد خطابًا هامًا لقائدها العام محمد الضيف، حتى تسمّرت بجانب المذياع ترقب هذا الخطاب، وتستمع بفخر لكل كلمةٍ ينطق بها حتى نهاية خطابه يوم التاسع والعشرين من يوليو المنصرم.
انتهاء الخطاب، كان إيذانًا بانتهاء أجل بعض أفراد تلك الأسرة الآمنة في منزلها، والتي تساقطت عليها القذائف المدفعية لتفرّق جمعهم وتُشغل كلّ واحدٍ منهم في محاولة النجاة بنفسه لهول المنظر.
"اسماعيل البطش" أحد الناجين من تلك العائلة، يروي لـ "الرسالة نت" لحظات القصف ومرارة الفقد وفصول تلك المجزرة التي تُضاف إلى سلسلة جرائم الجيش الذي يدّعي أنه الجيش الأكثر أخلاقيةً في العالم!.
يقول البطش: "كنا أكثر من 30 فردا مجتمعين في صالة المنزل نتبادل أطراف الحديث بعد انتهاء كلمة الضيف، حتى سمعنا صوت قصف عنيف مجاور لمنزلنا، مما اضطرنا للنزول فورًا إلى الطابق السفلي للمنزل كونه أكثر أمنًا".
القصف الأول استهدف المسجد العمري الملاصق لمنزلة عائلة "البطش" وسط بلدة جباليا شمال قطاع غزة، إلا أنه كان بداية لسلسلة قذائف تساقطت بعدها على المكان.
يتابع البطش: "استهدفت قذائف أخرى واجهة منزلنا المطلة على المسجد، فحاولنا بكافة الطرق الخروج من المنزل قبل تدميره بالكامل، إلا أن القذائف كانت تباغتنا تباعًا وتمنع أي أحدٍ من الخروج والنجاة بحياته".
رغم الظلام الحالك واقتراب موعد منتصف الليل، إلا أن مدفعية الاحتلال حوّلت المكان إلى كتلة من اللهب أضاءت المكان وعبّقته بدخانها الخانق، ناهيك عمّا خلفته من دمار وركام غطّى أجزاءً كبيرة من المنطقة.
نجاة بأعجوبة
"إسماعيل" استطاع مع عدد من أفراد العائلة وأطفالها النجاة بأعجوبة من منزلهم وإخلائه، مستغلين كل لحظة كانت تهدأ فيها القذائف، ففروا إلى منزل أحد الجيران الذي يبعد أمتارًا معدودةً عن منزلهم.
ما هي إلا لحظات حتى توقفت أصوات الانفجارات، بعد أن أزهقت ما أزهقت من أرواحٍ بريئة، وأصابت عددًا ممن رأوا الموت بأعينهم ومرّ شريط حياتهم كوميضٍ سريع في مخيلتهم.
أسرع إسماعيل عائدًا نحو منزله، وحول تلك اللحظة يقول: "انطلقت مُسرعًا صوب المنزل، وتعثرت عدة مرات جرّاء كثرة الحجارة والردم وانعدام الرؤية في المكان، إلا أنني وبمجرد وصولي تفاجأت بوالدتي ملقاةٍ على باب المنزل ومُضرّجة بدمائها".
صدمة البطش بمنظر استشهاد والدته، أنساه استنجاد طفله محمد (7 أعوام) مُناديا: "بابا أنا كويّس وهيني موجود، وهي آية استشهدت"، مشيرًا إلى شقيقته ذات الثلاثة عشر ربيعًا، والتي رافقت جدتها إلى مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.
يُكمل البطش: "وجدت محمد مصابًا في يده وأقدامه، إضافة لاختراق الشظايا لأنحاءٍ من جسده، وما هي إلا دقائق حتى حضرت سيارات الاسعاف وانتشلت والدتي وطفلتي، وذهبت معها حاملا طفلي المصاب".
فداءً للضيف والقسام
ما أن وصل "إسماعيل" إلى مستشفى الشهيد كمال عدوان ونزل من سيارة الاسعاف، حتى هزّ هتافه أرجاء المكان قائلا "فدا كتائب القسام .. فدا إسماعيل هنية .. فدا محمد الضيف"، ليسجد بعدها سجدة شكرٍ لله، أطلقت ألسنة كل من شهدوا المنظر بالتكبير والتهليل.
استشهاد والدته وطفلته، وإصابة عددٍ من أفراد العائلة، وتلطّخ ملابسه بدماء من حمل من الشهداء والاصابات، لم يُثنِ إسماعيل ولم يُنزل دمعةً واحدةً من عينيه، فأظهر صبر الواثق بنصر الله والمدرك أن طريق التحرير لن يكون إلا بالدماء.
سلسلة معاناة
تلك الحادثة لم تكن الجريمة الأولى بحق هذه العائلة، فمنزلٌ آخر لشقيق "إسماعيل" دمّرته طائرات الاحتلال الحربية، فيما دمّرت قذائف المدفعية أجزاءً كبيرةً من منزل شقيقه الآخر.
آلات الاحتلال طالت حتى أرضين زراعيتين لتلك العائلة في مناطق متفرقة من شمال قطاع غزة، وخرّبت محصولاً ضخمًا من الليمون وغيره مما غرسه أفراد العائلة بأيديهم.
الطفل محمد يرقد الآن في أحد المستشفيات بدولة مصر برفقة عمّه، فيما تستكمل العائلة إجراءات نقله لاستكمال علاجه في تركيا لصعوبة حالته، بينما كانت حصيلة القذائف في تلك الليلة 7 شهداء جراء القصف العنيف، منهم الحاجة حليمة والطفلة آية.
وعُرفت الشهيدة الحاجة أم صالح البطش (75 عام) ومنذ التسعينيات، بمساهمتها ودعمها الدائم للمقاومة ورجالها بكل ما آتاها الله من قوة وخير، فكانت دائمًا ما تنظم حملات تبرع للمجاهدين وتُشارك في كافة المسيرات التي تخرج نُصرة لحركة المقاومة الإسلامية حماس وذراعها العسكري كتائب القسام.
لم تقتصر على ذلك، فعملها الدعوي أيضًا تشهد له بلدة جباليا بأكملها، فلها من البصمات في "المسجد العمري" الملاصق لبيتها ما يكفل استمرار ذكرها على لسان أهل الحي لسنواتٍ عدّة، ومن المحاضرات والندوات ما سيبقى صدقةً جاريةً عن روحها إلى يوم الدين.