هناك مفارقة ذات دلالة يلتفت إليها كل من يتابع الجدل النخبوي الصهيوني في أعقاب الحرب على غزة، حيث يبرز بشكل واضح تهاوي الثقة في أوساط الكثير من النخب في مستقبل هذا الكيان.
فعلى الرغم من قوتها العسكرية ومنعتها الاقتصادية، وتراجع مستويات الخطر الوجودي عليها في أعقاب تفكك أو ضعف دول الجوار العربي، إلا أن ساسة وشعراء وكتاب صهاينة باتوا يعبرون بشكل واضح عن شكوكهم في قدرة (إسرائيل) على البقاء.
ومن المفارقة انه على الرغم من الدمار الهائل الذي ألحقته (إسرائيل) بغزة خلال الحرب الأخيرة، وعلى الرغم من أن الضرر المادي الذي لحق بالمجتمع الصهيوني يعتبر هامشياً جداً مقارنة بما حدث في غزة، فقد زادت نتائج الحرب من حدة التعبير عن هذه الشكوك.
ولعل أبرز ما يوضح هذه الظاهرة عدم تردد عدد من كبار الكتاب الصهاينة في الترويح لفكرة ترك (إسرائيل) والبحث عن حياة في مكان آخر. فقد فاجأ الكاتب يارون لندن قراء صحيفة "يديعوت أحرنوت" عندما أجرت معه الصحيفة مقابلة بتاريخ 10-9 أكد فيها أنه مثل كثير (الإسرائيليين) يتخوف من وطأة الخطر الدائم الذي يتهدد (إسرائيل)، لذا فهو يستعد للبحث عن "وطن آخر" غير (إسرائيل).
ويضيف لندن، مقدم البرامج الحوارية البارز في قناة التلفزة العاشرة، أنه يبدو متفائلاً عندما يقول أنه يعطي (إسرائيل) فرصة 50% للبقاء، مشيراً إلى تجذر الشعور لدى قطاعات واسعة من (الإسرائيليين) باليأس من قدرة "الدولة" على البقاء.
ويوضح لندن أن المعضلة التي تواجهها (إسرائيل) تتمثل في أن قيادتها غير قادرة على إدارة الحرب بشكل ذكي، ولا تملك الرؤية المستقبلية". ويعتبر لندن أن تعاطي (إسرائيلي) الإشكالي مع قطاع غزة هو الذي أدى إلى اندلاع الحرب الأخيرة التي مست بمعنويات الكثير من (الإسرائيليين).
وسيضمن الكاتب الاسرائيلي رؤيته هذه في كتاب ذكريات سيصدر قريباً في لندن.
ولا يختلف وزير التعليم الأسبق يوسي ساريد في نظرته التشاؤمية عن لندن. وفي مقال نشرته صحيفة "هارتس" بتاريخ 8-9، يلفت ساريد الأنظار إلى حقيقة أنه عندما تحل الذكرى السنوية لقيام "الدولة" يتفجر السؤال التقليدي: هل ثمة مستقبل لنا هنا؟ هل بإمكاننا مواصلة التواجد في هذه المنطقة".
ويقتبس ساريد من قصيدة الشاعر يعكوف جلعاد التي تصور عمق انعدام الثقة في مستقبل هذا الكيان، حيث يقول في مطلع قصيدته: "إنك لا تريد أن تكون هناك مطلقاً، إذن ما العمل، أحداً لم يسألك ما الذي جاء بك إلى هنا، لكن عندما تكبر ويكون لك ولد، ويسألك: ماذا أفعل عندما أصبح شاباً؟ ستقول له: غادر هذه البلاد ولا تسأل أحداً".
ويوضح ساريد أن كثيراً من العائلات التي فقدت أبناءها في الحروب باتت تتساءل حول جدوى تضحياتها. وينقل ساريد تساؤل نوريت، شقيقة الطيار يغآل ستاف الذي قتل خلال حرب 73: "هل راحت تضحيات يغآل سدىً".
ونوه إلى أن نخب الدولة الحاكمة حرصت على منع تفجر أسئلة حول مستقبل (إسرائيل) ومدى ضرورة التضحية من أجلها، مشيرا إلى أن القيادات التي توالت على إدارة شؤون الدولة بذلك كل الجهود الممكنة من أجل "جعل الأكاذيب مسلمات، وهو ما جعل (إسرائيل) تقف عارية بعد عقود على إقامتها، حيث ليس أمامها إلا الحروب، لدرجة أن شعار كل (إسرائيلي): أنا وأنت والحرب القادمة".
وفي أتون هذا الجدل، يحذر المفكر روجل ألفر أن الضياع الذي ينتظر (إسرائيل) يتمثل في تحولها إلى "دولة غير ديموقراطية تتحكم فيها أقلية يهودية، دولة تمارس الطغيان على شعب آخر تعتمد على نظام قمع قاس، تنخر فيها العنصرية والعنف".
وفي مقال نشرته "هارتس" يسخر ألفر من قادة (إسرائيل) التي يعتقد حكامها أن المسيح سينزل وسيجلب معه كل يهود العالم إلى هنا، دولة تتوهم أن الفلسطينيين يمكن أن يعيشوا تحت نظام فصل العنصري أو أنهم ببساطة يقبلون الطرد إلى مكان آخر".
وتساءل عن مستقبل "دولة يكاد اقتصادها ينهار بفعل عبء نفقاتها الأمنية، دولة تتهددها المقاطعة الدولية، دولة نخبها الحاكمة ينخرها الفساد، دولة يتهم من يتبنى رأياً مخالفاً فيها بالخائن، دولة يتمنى أغلب قاطنيها أن تتدخل قوة خارجية لانقاذها من نفسها وتفرض حلاً للصراع يجعل من الحياة طبيعية هنا".
ويروي ناحوم برنيع، كبير المعلقين في صحيفة "يديعوت أحرنوت" حادثة تبدو كطرفة، ولكنها حقيقة، وتدلل على انعدام الثقة بإمكانية تواصل (إسرائيل) حتى لدى أصدقاء (إسرائيل) الأمريكيين.
ويشير إلى الكاتب اليهودي الأمريكي وليام غوردس الذي ذهب الى طبيب قبل ساعات من اقلاعه من نيويورك الى لوس انجلوس، للحصول على وصفة دواء طلب أخذها قبل السفر بالجو، فسأله الطبيب: "بماذا تعمل؟". فرد غوردس: أنا كاتب. فسأل الطبيب: ماذا تكتب؟ قال: قصصاً حول (إسرائيل). فضحك الطبيب، وقال: آه "أفهم الان، انت تكتب قصصاً قصيرة !!!. ويضيف برنيع "إجابة الطبيب العفوية تعكس المزاج العام في (إسرائيل)، وهو مزاج الشعور بنهاية الزمان، مع أنه لا يتحدث عنه أحد لكن الجميع يشعرون به. إنه نوع من اليأس، لا ينبع من الحرب التي كانت أو من الحرب التي قد تأتي، بل من مصادر أعمق"، على حد تعبيره.