قائد الطوفان قائد الطوفان

"فارس".. ورث جينات الفن فرسم آلام القضية

الفنان التشكيلي فارس عياش
الفنان التشكيلي فارس عياش

الرسالة نت-عبدالرحمن الخالدي

تعدد الفنانون والذوق ليس واحِدًا، فكلٌ منهم أبدع الفن من زاوية تفكيره ونظرته الإبداعية الخلّاقة، ما ميّز كلّ واحد منهم عن غيره من جموع الفنانين.

فنانو غزة التشكيليون ورغم كل ما يحيط بهم من ظروف قاسية ومُحبطة، إلا أنهم أثبتوا للعالم أجمع أنهم باقون ليجسّدوا إجرام المحتل بكل ما أوتوا من مهارةٍ ودهاء.

ربما رأى الكثير منا اسم "فارس عياش"، على إحدى زوايا رسوماته أو جدارياته أو حتى منحوتاته التي جابت مناطق متعددة من قطاع غزة من شماله إلى جنوبه، إلا أنك لن تلمس حقيقة تلك الشخصية إلا إذا تناولت معه أطراف الحديث وتجوّلت في دهاليز تفكيره ومخيّلته.

مراسل "الرسالة نت" التقى بفارس، وتجول بين ثنايا منزله الذي حوّله بكل ما فيه إلى معرضٍ صغير، تأسرك كل صغيرةٍ وكبيرة فيه، فتحس أنك تعيش جوًا من الفن الذي يحيطك من كل جانب.

حول بداياته يقول فارس: "وهبني الله نعمة الفن والنظر إلى الأمور من زاوية قد يجهلها أكثرهم، إضافةً إلى كونها جينات موهبة عائلية، فوالداي أتقنا الفن من قبلي بعدما ورثوه عن آبائهم، كما شاءت الأقدار أن يكون عمي –والد زوجته- مدرسًا للتربية الفنية".

بيئة فنية بامتياز، ساهمت في صقل موهبة فارس وأتاحت له تجربة كل ما يدور بخَلَده من أفكارٍ أو رسومات أو حتى تحويل المواد البدائية ومخلفات البيئة لفنونٍ تسر الناظرين.

في مكان يصلح لأن يكون معرضًا فنيًا متكامل الأركان، يعيش فارس في شقة سكنية صغيرة بمنزل عائلته بمخيم النصيرات وسط القطاع، بالكاد تتسع له ولزوجته وأطفاله الثلاثة، إلا أن لمساته غطّت كل ركنٍ منه وأضفت عليه جمالاً خاصًا.

يقول فارس: "أردت دراسة تخصص فني في إحدى جامعات الخارج، إلا أن الظروف لم تسمح لي إلا بدراسة التربية الفنية بجامعة الأقصى، والآن أعمل معلمًا للتربية الفنية في أحد المدارس الحكومية بمخيم دير البلح".

"تدربت على أيدي العديد من الشخصيات والفنانين، وأهدف لأن أتميز عن باقي الفنانين وألا أكون رسامًا عاديًا أعرض أعمالي في أي وقت"، يستطرد فارس.

مسيرة فنية

سبعة وثلاثون عامًا عاشها فارس، كانت حافلةً بالفن والإبداع في مختلف المحافل، فشارك بأعماله في عدد من الدول الأوروبية والعربية، إلا أنه لم يستطع مرافقتها جراء الإغلاق المستمر لمعابر القطاع ومنعه من السفر لعدة أعوام.

"مؤخرًا عُرض عليّ الذهاب إلى المملكة المتحدة لعرض بعض أعمالي بعدما اطلعت جهةً معنية عليها عبر الانترنت، إلا أنني مُصِّرٌ على عرض أعمالي داخل القطاع قبل الانطلاق إلى المحافل الدولية"، يقول فارس.

عدا ذلك، فقد شارك بعشرات الفعاليات والمعارض المحلية، كونه عضوًا في العديد من الجمعيات واللجان الفنية المحلية.

بدءًا بالرسومات واللوحات الفنية، ومرورًا بالمنحوتات بمختلف أشكالها، وانتهاءً بالأنصابٌ التذكارية والجداريات والمجسمات في الميادين، وأيضًا النوافير المائية بأشكالها، كلها تخصصات أتقنها فارس وله من الأعمال بها ما يمكن أن يفتخر به طوال حياته.

يُتابع فارس: "إحساسي بالفن وتحويل المواد المتوفرة في البيئة لأعمال فنية بإضافات أو تعديلات بسيطة، ميّزني عن غيري من الفنانين، فأعمالي جزء منها من خيالي وأشياء أخرى من الواقع الذي أحوّره بطريقتي الخاصة".

عدوانٌ مُلهم

العدوان "الإسرائيلي" الأخير على قطاع غزة، كان ملهمًا كبيرًا لفارس في استقاء أفكاره واتقانه للرسومات التي يسعى من خلالها لإيصال رسالة أطفال وأبرياء فلسطين، إلى العالم الظالم وكل صاحب ضمير حيٌّ فيه.

حوله يتحدث فارس: "رفضت الخروج من منزلي خلال العدوان رغم أن منطقتي كانت خطرة وتعرضت للقصف الشديد، فأنا لن أنزح كما نزح أجدادنا من قبل، وبعض الأعمال نفذتها خلال الحرب وتحت القصف العنيف".

يؤمن فارس أنه يجاهد بريشته وقلمه كما يجاهد المقاومون بسلاحهم، فهو يعبّر بما أوتي من إحساس وقدرة عما يرتكبه الاحتلال من جرائم بحق الأطفال والنساء وكل الأبرياء من أهالي قطاع غزة.

وما بعث الطمأنينة في قلب فارس رغم اشتداد العدوان وكثرة الشهداء، أن أعمالا كثيرةً أنجزها كفيلة بإيصال رسالته حتى ان استُشهد، فيقول بكل ثقة: "إن عِشت بسلام فأنا سأستمر وسأوصل رسالتي، وإن متّ فلوحاتي موجودة وكفيلة بالتعبير عما عاناه الشعب الفلسطيني لعشرات السنين".

المعرض الأول

يكشف فارس لـ"الرسالة نت" أنه بصدد تنظيم معرضه الفردي الأول الخاص به خلال الأيام المقبلة، مؤكدًا أنه سينطلق بشكل فريد من نوعه يميزه عن باقي فناني القطاع من التشكيليين.

ويضيف: "في معرضي الفردي الأول سأحرص على عرض أعمال فنية بأسلوب جديد يضيف على مفهوم الفن التشكيلي الموجود، ويميزه عن باقي المعارض والأعمال الموجودة".

لوحات معرضه المقبل، سيغلب عليها العنصر الطفولي والرسومات التي تجسّد عذاباتهم وما لاقوه من صنوف الاضطهاد رغم صغر سنهم، واصفًا إياه بأنه معرض "طفولي محلي عالمي".

يُكمل فارس: "أسلوب العرض الجديد هو تسليط الضوء على قضايا معينة من ناحية جهادية، فأنا فلسطيني وكل فلسطيني مكتوب عليه الجهاد بأي أسلوب كان، وركزت على موضوع الأبرياء ورسم معاناتهم".

الناظر إلى الإبداع المنبعث من أعمال فارس بأنواعها، يظن أن ورشة عمله ذات امكانيات عالية وتتوافر بها كل اللوازم الفنية، إلا أن المفاجأة كانت حين اصطحبنا لسطح منزل عائلته الذي استغل منه ركنًا يشغل وقته به ويحتفظ فيه بكل أدواته.

على ذلك السطح، ستجد العديد من الأدوات والأخشاب والزجاجات التي لربما تراها يوميًا دون اهتمام، إلا أنها بلمسات فارس وترددات ألوانه ونظرته المختلفة غَدَت قطعًا فنية يأمل كلٌ منا اقتناءها.

إضافات تُميّزه

يختصر فارس مبتغاه بكلماتٍ قائلا: "أريد أن أضيف على الحركة الفنية التشكيلية شيئًا جديدًا يميزني على المستوى المحلي والدولي، من خلال استخدام الواقع والتغيير من ألوانه".

حتى أطفال فارس الثلاثة "ريتاج ونور وهداية" لم يسلمن من فن والدهنّ، فقد رسمهن في لوحاتٍ متعددة، وكُنّ مصدر استقاءٍ للأفكار في عديد من أعماله.

وكذا الحديقة الخلفية لمنزل فارس وعائلته، تحوّلت بكل أركانها لمعرض فني بكل زواياها، فاحتوت عددًا من الأعمال الفخارية والرسوم الجدارية والقوالب الزراعية الإبداعية، فيما توسطتها نافورة مياه إبداعية زيّنتها الأضواء المحيطة بها.

فارس، كغيره من آلاف موظفي قطاع غزة الذين لم يتلقوا رواتبهم منذ أكثر من ستة أشهر، يوفر ألوان الرسم والأوراق والألواح الخشبية والقطع القماشية بصعوبة بالغة، فهو بالكاد يستطيع تأمين قوت يومه وحوائج عائلته.

يقول فارس: "مهما اشتد الحصار ومهما انعدمت السبل، سأبقى أنا وجميع فناني فلسطين نثبت أننا أناس أحرار لدينا كمٌ كبير من الثقافة والفن، ولن تثنينا كل الضغوط التي تمارس علينا فنحن أصحاب قضية وصمود".

ريشة وقلم

في ختام حديثنا مع فارس، حلّ زميله الأستاذ ياسر الوقاد عليه ضيفًا، فهو يساعده في كتابة المواد المطبوعة للمعرض، كما أنه لطالما رافقه في دربه الفني وساهم في إضافة مسميات أدبية وشعرية لأعمال فارس وزوّده بعدد من الأفكار.

الوقاد يعمل مدرسًا للمواد الاجتماعية في ذات المدرسة التي يعمل بها فارس، كما أنه شاعرٌ أيضًا وله ميول في الفن التشكيلي، فلقائهما جمع ما بين القلم والريشة.

طلبنا منه وصفًا لزميله فارس، فلم يتردد بالقول: "فارس يمتلك موهبةً عاليةً في الرسم وتكوين الأعمال وتلوينها، وعلاقتي به كما اللوحة عبارة عن قصيدة مرسومة، والقصيدة عبارة عن لوحة مكتوبة".

(عدسة : محمود أبوحصيرة)

البث المباشر