برودة الطقس فاقت التحمل، رياح شديدة تعصف بذلك المكان الموحش، لا صوت يعلو فوق صوت المحقق، الذي انسلخ عن معاني الإنسانية والوطنية، وسمح لنفسه بأن يكون جلاداً لبني جلدته.
هناك في سجن الجنيد، على الأطراف الغربية لمدينة نابلس، يجثم معلم من معالم القهر والظلم، تعاقبت عليه سطوة الجلاد منذ عهد الانتداب البريطاني، ليبقى شاهدا على عذابات المئات من الأسرى الفلسطينيين، مرورا بالاحتلال الإسرائيلي، ووصولا لسلطة أوسلو.
هنا، بالضفة المحتلة، حيث تتغول أجهزة السلطة باعتداءاتها ضد أنصار حركة حماس، وسط صمت وتجاهل كبيرين، يقضي عدد من المعتقلين السياسيين في سجون السلطة، منهم من خرج بأمراض مزمنة جراء التعذيب الوحشي الذي تعرض له، ومنهم من لا يزال قابعا بزنازينهم، وآخرين تتناوب الأجهزة على استدعائهم بين حين وآخر.
معتصم سقف الحيط (25 عاما) أحد الشبان الذين عانوا وذاقوا الأمرّين، خلال تناوب أجهزة السلطة والاحتلال على اعتقاله، خرج مؤخرا من سجن الجنيد بعد اعتقال دام 38 يوما، 15 منها كانت على ذمة المحافظ دون توجيه تهمة.
سنوات عمره التي توحي بعنفوان الشباب وبريق الحياة، لم تعد كذلك، بعد أن أصابه مرض الديسك بظهره، جراء التعذيب والشبح والمتواصل في سجون السلطة.
اعتقل سقف الحيط أربع مرات لدى السلطة، كان آخرها بتاريخ الثالث عشر من يناير الماضي، حيث زج به بالسجن على ذمة المحافظ، وهو الاعتقال الذي يتيح لأجهزة السلطة الإبقاء على المعتقل دون توجيه تهمة، بحجة أنه اعتقال احترازي، فيما يؤكد حقوقيون أنه اعتقال تعسفي ينتهك حقوق الإنسان وحريته.
تعرض معتصم لأشكال من التعذيب القاسي وغير الإنساني خلال اعتقاله الأخير، واعتقالاته السابقة.
في اليوم الأول لاعتقاله الأخير، أدخل معتصم لغرفة أحد المحققين، الذي لم تبدو عليه سوا ملامح الحقد والكراهية، نظر لمعتصم وقال له:"كم كانت مدة أطول فترة تحقيق أمضيتها بحياتك" فأجابه معتصم:"تم التحقيق معي في سجون الاحتلال لساعات طويلة"، فقال المحقق:"اليوم سأحطم الرقم القياسي معك بالتحقيق".
يضيف معتصم في حديثه لـ"الرسالة نت":"يومها امتد التحقيق معي منذ ظهر اليوم الأول لاعتقالي وحتى صباح اليوم الثاني، وكنت مشبوحا طوال الوقت".
لم يكتف المحقق بشبح معتصم، بل كان يتلذذ بتعذيبه وإهانته، في أجواء شديدة البرودة.
غرفة التحقيق الباردة، مفتوحة النوافذ، ومعتصم يقف على قدميه مشبوحا لساعات طويلة، بلا طعام او شراب، لكن هذا لم يكن كافيا أيضا ليشفي غليل المحقق الذي بدأ باستخدام أسلوب آخر مع الشاب العشريني.
يقول معتصم:"عند بدء التحقيق قال لي المحقق كل نصف ساعة سأسألك سؤالاً، وإن لم تجب ستخلع قطعة من ملابسك!"، مرت عدة ساعات، حتى أصبح معتصم يقف بغرفة التحقيق التي تعصف بها الريح الباردة، وهو بملابسه الداخلية فقط.
تغلغل البرد لعظام معتصم، الذي يعاني أصلا من ديسكين في ظهره جراء التعذيب باعتقالات سابقة، تشجنت أطرافه، وازرقّ جسده من شدة البرد، ورغم ذلك، لم يكتف المحقق برؤية معتصم يرتجف بردا، فأحضر الماء البارد وسكبه تحت قدمي معتصم الحافيتين، وسكب الماء البارد على جسده.
يقول معتصم:"كانت لحظات صعبة جدا، لم أكن أشعر بأطرافي، تخدر جسدي، وتشجنت من شدة البرد، عدا عن التعب من الشبح واقفا طوال جلسة التحقيق".
وطوال الجلسة، كان يرفض المحقق أن يحضر الماء لمعتصم ليشرب، رغم طلبه المتكرر، وأضاف:"في صباح اليوم الثاني، أحضر المحقق غطاة زجاجة الماء وسكب فيها قليلا من الماء وأشربني، بأسلوب مهين وغير إنساني".
يضيف معتصم متهمكا وهو يروي موقفا خلال التحقيق:"وأنا بتلك الحالة المزرية، أقف شبه عار، والبرد يقتص من عظامي، أحضر المحقق كيس نايلون، ووضعه على وجهي وخنقني به، وقال لي "سأصلي المغرب وأعود لك!".
يقول معتصم:"كان التحقيق يدور حول نشاطي بحركة حماس، وأخبرت المحقق أني اعتقلت لدى الاحتلال إداريا، وأن كل التهم التي يوجهها لي هي تهم كيدية، فقال لي:"لا يهمني، نحن لدينا قرارات سياسية بإبقاء عناصر من حماس لدينا بالسجون".
وتم تحويل معتصم للاعتقال على ذمة محافظ مدينة نابلس منذ اعتقاله لخمسة عشر يوما، لاقى خلالها أشكالا من العذاب، ففي اليوم الأول من وصوله لسجن أريحا، وضع في زنزانة ضيقة وباردة، لا تحتوي حتى على فراش للجلوس أو النوم، فالنوم أو الجلوس من المحرمات فيها.
يصف حاله في تلك الزنزانه قائلا:"الزنازين مراقبة، وإذا جلس السجين على الأرض يأتي الحارس ويأمرنا بالوقوف، وهو نوع آخر من الشبح، وقد استمر طوال اليوم الأول من وصولي لأريحا، وبعد ذلك، كنا نمنع من النوم، وإذا ما استطاع أحدنا أن يغمض عينيه لينام، يأتي الضابط ويوقظه كل خمس دقائق، لقد حرمونا من النوم لعدة أيام!".
بعد قضائه 15 يوما من التحقيق وهو على ذمة المحافظ، تم تحويله للنيابة العامة في أريحا، وتوجيه تهم إثارة النعرات المذهبية، وجمع أموال من جمعيات غير مشروعة، الأمر الذي نفاه معتصم أمام القاضي، مؤكدا له أنه تعرض للتعذيب خلال اعتقاله، وهو ما جعله يوقع على الإفادة المعروضة أمامه بتلك التهم، فتم تمديد اعتقاله 24 ساعة أخرى، وبعدها لخمسة عشر يوما آخرين، إلى أن تم تحويل ملفه لنيابة نابلس، وأفرج عنه بكفالة مالية مقدارها خمسة آلاف دينار أردني غير مدفوعة، وتحديد جلسة محاكمة أخرى بتاريخ السادس عشر من آذار القادم.
ويشير معتصم إلى أن تلك التهم هي ذاتها التي وجهت له باعتقالاته السابقة، ولغالبية المعتقلين السياسيين بالضفة، على الرغم من عدم التحقيق معهم فيها، .
وقال:"التحقيق يكون حول النشاط بحماس، لكن قانونا لا يستطيعون توجيه هذه التهمة لنا أمام المحاكم، لأنه حماس غير محظورة قانونيا".
خرج معتصم من غياهب سجونهم، لكن آثار ذلك الجرح الذي لا يندمل، لا تفارقه مع كل لحظة ألم في ظهره جراء التعذيب، ومع كل دقيقة يستذكر فيها ضياع فرصته بالالتحاق بالجامعة نتيجة الاعتقالات المتكررة لدى الاحتلال والسلطة، ومع كل محاولة للبدء من الصفر في عمله الذي بات على كف عفريت بسبب توالي الاعتقالات.
حال معتصم لا يختلف عن حال عشرات إن لم يكن المئات بالضفة المحتلة، ممن فقدوا الفرص بالعمل والدراسة، ومن سلبت منهم الاعتقالات وأساليب التحقيق في أقبية سجون السلطة حريتهم وصحتهم، وتسببت لهم بمشاكل صحية مزمنة، فمنهم من أصيب بالشلل، ومنهم من فقد قدرته على السمع، ومنهم من أصيب بأمراض جلدية وتنفسية تلازمه طوال حياته.
وعلى الرغم من كل ما سبق، يخرج الناطق الإعلامي باسم الأجهزة الأمنية بالضفة لينفي وجود معتقلين سياسيين في لقاءاته الصحفية، بينما تقف المؤسسات الحقوقية مذهولة أمام حجم الانتهاكات في سجون السلطة، لا يسعها غير تدوين وتوثيق تلك االحالات، مطالبة السلطة بوقف انتهاكاتها، ولكن، لقد أسمعت لو ناديت حيّا.. لكن لا حياة لمن تنادي.