مقال: (الأسرى يدفعون الاضطهاد بالإضراب والمرابطون يدافعون بضرب الرقاب)

د. يونس الأسطل

 

( وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (

( النساء : 75 )

     أعلن عام 2010م عاماً للأسرى، وفي نِيسان من كل عام، يجري تخصيص الأسرى بمزيد من الاهتمام؛ نظراً لليوم الذي خصص فيه للأسير الفلسطيني في السابع عشرَ منه.

     ولعل الحكومة الفلسطينية هي الوحيدة التي فيها وزارة للأسرى، ذلك أن عدد المعتقلين عند الاحتلال الصهيوني يتذبذب حول عشرة آلاف، أوِ انْقُصْ منه قليلاً، أو زِدْ عليه، بينما صار عدد الذين اعتقلوا منذ توسع الاحتلال عام 1967م يربو على المليون.

     وقد حكم العشرات منهم بمئات السنين، ومنهم من أمضى ثلث قرن، ولا زال في الأغلال، وقد تجاهلتهم السلطة الفلسطينية منذ بداية تفاوضها مع اليهود قبل ثماني عشرة سنة خلتْ، أو انسلخت من عمر الشعب الفلسطيني، دون أن يجني شيئاً؛ باعتراف أزلامها؛ إلا الأمن الذي تحقق للصهاينة، فانتهزوه في سُعار الهجرة إلى فلسطين، والتوسع الجنوني في استلاب الأراضي، ودَقِّ أوتاد المستوطنات.

     إن غاية ما جاد به الاحتلال أن يفرج في أوقاتٍ متباعدةٍ عن عددٍ محدودٍ ممن قاربتْ محكومياتهم على النفاد، وأَزِفَتْ حريتهم، وربما كان عددٌ منهم قد احْتُجِزوا عمداً بعد قضاء مدة عقوبتهم؛ ليزيدوا عدد الصفقة، ولتصل أحياناً إلى خمسين سجيناً بعد المائتين، تكون نسبةٌ منهم من الجنائيين، لا من الأمنيين، أو المجاهدين بتعبير أدقَّ، وقد كانوا من لونٍ سياسي واحدٍ أكثر من مرة، هو فصيل رئيس السلطة؛ ليظهر أن المفاوضات المكوكية قد أسفرتْ عن شيءٍ، كان يُتَوَقَّعُ أن يكون جَمَلاً فإذا هو فأر، ولله المشتكى.

     ولا أبالغ – إن قلت-: إن السلطة كانت راغبةً في بقاء القادة والمجاهدين في السجون؛ إذْ إنها تعهدتْ بأمن الاحتلال، وإن خروج هؤلاء سيتيح للمقاومة أن تستقوي بأشخاصهم وخبرتهم، فتتعقد مهمة السلطة، إلا أن يكونوا من الموالين لها، فيسهم خروجهم في تسهيل وظيفتها؛ إذْ تقوم بتفريغ كثيرٍ منهم في أجهزتها الأمنية، ويُمْسُون في خدمة الاحتلال، وحراسة مستوطنيه، وقد يكون طائفة منهم مجندين في العمالة قبل خروجهم.

     وقبل أن أخوض في تأويل آية المقال، وما فيها من تكليف يتعلق بالإسهام في افتكاك الأسرى، أودُّ أن أشير إلى أن الاعتقال، سواء كان عند الاحتلال، أو عند الذين نافقوا من إخوانه، يندرج في دائرةِ الابتلاء الذي أقسم المولى جل جلاله عليه، حتى يعلم المجاهدين منكم والصابرين، وحتى لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة،  ولمَّا يعلمِ اللهُ الذين جاهدوا منكم، ويعلمَ الصابرين.

     إن اللهَ جلَّ وعلا يبلوكم بالشر والخير فتنة، وإن الابتلاء بالشرِّ أو الضُّرِّ هو أهون الابتلاءين، وأخف الاختبارين، فيكون من نعمة الله عليهم أن اختار لهم ما اختاره سيدنا يوسف عليه السلام حين قال:" ربِّ السجن أحبُّ إليَّ مما يدعونني إليه"، فلبث في السجن بضع سنين؛ ليتأهب من بعده لخزائن الأرض، يَتَبَوَّأُ منها حيثُ يشاء، فكان الحبس هو آخرَ الابتلاء بالمصيبة بين يدي التمكين، ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض، فإن الدنيا إذا بُسِطتْ للعباد، فتنافسوها كما تنافسها مَنْ قبلهم، أهلكتهم كما أهلكت الأولين من المترفين.

     ولا بُدَّ هنا من أن نعلم أن الأسير الحقيقي ليس الحبيس خلف القضبان، المحروم من الذهاب والإتيان، مع تعلق قلبه بالرحمن، وارتباط رُوحه بالجنان، إنما الأسير هو عبد الشهوة الذي فيه شركاء متشاكسون، من النفس الأمارة بالسوء، والشيطان الغرور، والدنيا الفاتنة وهي الفانية؛ فإن من اتخذ إلهه هواه، كان كالأنعام، بل هم أضل سبيلا.

     إن آية النساء تنعى على الذين لمَّا كُتب عليهم القتال إذا فريقٌ منهم يخشون الناس كخشية الله، أو أشدَّ خشية، وقالوا: ربنا لِمَ كتبتَ علينا القتال، لولا أخرتنا إلى أجلٍ قريب، فقد قال لهم: ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله، ومنه القتال لإنقاذ المستضعفين من الرجال، وربَّات الحِجال، والأطفال، أولئك الذين يبتهلون إلى ربهم؛ ليخرجهم من مكة الظالمِ أهلها، وليجعل لهم من لدنه ولياً ونصيراً، وهي تتحدث بصراحة عن أحدِ مقاصد القتال في الإسلام، وعن وجوب شَنِّ الحرب؛ لانتزاع الأسرى من براثن الأعداء، وهو أحد دروب انتشال الأسرى، من الفتنة والذلة.

     وإذا كان من الأفضل أن تكون في بنود، فإنني هداني ربي إلى سردها في النقاط التالية:

1. إذا تمكن الأسير من الإباق وجب عليه الفرار؛ حتى لا يظلَّ مرشحاً للفتنة في الدين، أو القتلِ على أيدي المجرمين، كما أن علينا أن نساعده في الإفلات إِنِ استطعنا، وكان الأسير ممن لا يستطيعون حيلةً، ولا يهتدون سبيلاً؛ فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يرسل من يتسلل إلى مكة، ويتحسس من (يوسفَ وأخيه)، ثم يَتَسَوَّرون عليهم بليلٍ، ويقطعون وَثَاقهم، ويعودون بهم، كمن هو مستخفٍ بالليل، وساربٌ بالنهار.

2. التضرع إلى الله سبحانه أن يجعل لهم من ذلك الهَمِّ فرجاً، ومن ذاك الضيق مخرجاً، فقد قَنَتَ النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً بعد الرفع من الركوع في آخر الصلاة، وهو يدعو بالنجاة لعياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وغيرهما ممن وقعوا في قبضة قريش، كما أن المطلوب من الأسرى أنفسِهم أن يتضرعوا إلى ربهم، وأن يقتدوا بذي النون عليه السلام، فقد الْتقمهُ الحوت وهو مُليم، فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك؛ إني كنت من الظالمين، فنجَّاه الله من الغمِّ، وكذلك يُنجي المؤمنين.

     ومما يروي أسرانا في هذا أن شاباً من فصيلٍ فلسطيني قد طال دَسُّهُ في الزنازين، فقيل له عليك بدعاء يونس بن مَتَّى، فأجاب: لستُ من الظالمين، حتى أدعوَ به، فإن الظالمين هم اليهود، ثم راجع نفسه، وقال: ما عليَّ لو دعوتُ به، فلم يمضِ يومانِ حتى خرج إلى المردوان، أو الجناح الذي يحتجز فيه عدد من النزلاء، فَأنِسَ بهم، وزالت وحشته.

3. التفاوض مع العدو لتحريرهم بالتلويح بالقوة، وإعادة الحرب جذعةً؛ فإن كان بنا ضعفٌ فلا مانع من دفع المال إليهم؛ لإغرائهم بإطلاق سراحهم؛ بدءاً بالغنيمة، مروراً ببيت المال، وانتهاءً بالموسرين من المؤمنين، حتى لو كان الأسير نفسه من أُولي الطَّوْل؛ وجب عليه أن يفتدي نفسه منهم، فقد أفلت صُهيبٌ العربي الرومي رضي الله عنه بعد أن دَلَّ قريشاً على ماله أجمع.

     وقد جعل ربنا تبارك وتعالى نصيباً من الزكاة لفكِّ الرقاب، فإذا وجب ذلك وهم أرقاء تحت أيدي المؤمنين، فإنهم عندما يكونون أذلاء صاغرين تحت وطأة الكافرين؛ يكونون أحقَّ بِكِفْلَينِ منها، أو بها كلِّها، بناءً على الفتوى بوجوب افتدائهم، ولو أحفى ذلك ببيت المال، وأمسى قاعاً صفصفاً، لا ترى فيه ديناراً ولا درهماً.

4. ولعل أنجع منهج في ذلك أن نحرص على أَسْرِ جنودٍ للاحتلال، ونبادلهم بأسرانا، فقد أثبت نجاحه في مراحل صراعنا مع عدونا، ومن أشهر الصفقات في ذلك ما جرى قبل ربع قرن مع القيادة العامة، ثم مع حزب الله أكثر من مرة، وما قصة الجندي الصهيوني جلعاد شاليط منكم ببعيد، وعلى ما يبدو أننا في حاجة أن نؤلم الصهاينة بمزيدٍ من الشلاليط؛ حتى يأتوا إلينا مُذْعِنين، فنرى أسرانا بين ظهرانينا، وعسى الله أن يأتينا بهم جميعاً، إنه هو العليم الحكيم.

5. وإلى أن يتحقق ذلك فالواجب أن نوفر لهم جميع احتياجاتهم من النفقة، وتكاليف المحاماة، وغير ذلك، لهم ولذويهم وأهليهم، فنكون ممن خلف غازياً في أهله بخيرٍ، وأنصح أن نجعل لهم مدخراتٍ يأخذونها عند إيابهم، فينتفعوا بها، فضلاً عن أولويتهم في الوظائف والحقوق، ونحوها.

6. كما أن الواجب أن نرفعهم إلى مقام الأسوة والقدوة، فيكون جهادهم وصبرهم حديثَ المجالس والإعلام، بل والمناهج التعليمية، وفي المنابر والمحاريب؛ ليكونوا للمتقين إماماً، فلقد كان لكم  فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر.

7. ومن المهم أن نعرف أسماء الضباط الذين يقومون بتعذيبهم، وأن ننشر أسماءهم في وسائل الإعلام، ثم نلاحقهم قضائياً في المحاكم الدولية أو القُطْرية التي تسمح قوانينها بذلك؛ حتى نَحُول بينهم وبين حرية التنقل؛ حذراً من الإنتربول، أو البلدانِ التي باتوا مطلوبين للعدالة فيها، وبذلك نحبسهم داخل الكيان جزاءً بما كسبوا نكالاً من الله.

8. والأهم من ذلك أن يكون ملفُّ الأسرى ذا أولوية على رأس واجباتنا في التحرك السياسي داخلياً وخارجياً، وبالأخص للمتفاوضين مع الاحتلال.

9. ويظل القتال لإنقاذهم انطلاقاً من الجهاد في سبيل الله، ووجوب النصرة في الدين، هو الأدنى إلى تركيع الاحتلال، وإكراهه على تبييض سجونه من إخواننا في الدين؛ فإنكم إنْ تقاتلوهم يعذبْهم الله بأيديكم، ويُخْزِهم، وينصرْكم عليهم، ويَشْفِ صدور قومٍ مؤمنين.

والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون

 

1

 

 

1

 

البث المباشر