قائمة الموقع

البروفيسور حمّاد.. وصل إلى العالمية على كرسي متحرك

2015-05-11T06:23:33+03:00
لقاء الصحفي محمد أبو زايدة مع العالم نافذ حمّاد
الرسالة نت-محمد أبو زايدة

في بيتٍ يحتضن آلاف الكتب، هو أقرب ما يكون إلى مكتبة علمية تختص بالشريعة الإسلامية وعلومها.. يعيش الدكتور "نافذ حمّاد".

يحلّق ليلا ونهارا إلى عالم آخر بين أربعة جدران ضمّت ما يزيد عن 3 آلاف كتاب، يواصل خلالها تقليب الصفحات، وكتابة الأبحاث على مكتبه لمدة تزيد عن 16 ساعة يوميًا، حاملًا كلمات الشاعر الوزير يحيى بن هبيرة: "والوقت أنفس ما عنيت بحفظه، وأراهُ أسهل ما عليكَ يضيعُ".

"الرسالة" حلّت ضيفة على الدكتور حمّاد -الذي تعرض إلى حادث سير في عام 2000 لينتهي بإصابته بشلل في نصفه السفلي، أقعده على كرسيٍ متحرك- لتطرق باب ذاكرته، وتستأذنه باستحضار الماضي، لمعرفة مراحل حياته المختلفة.

رياح الطفولة

حياة وعائلة بسيطة نشأ في كنفها حمّاد. وأثناء جلستنا ما فتئ يسترجع ذكرياتِ بيته، وشجر العنب والجوافة الذي يتوسطه، وجاره صاحب محل السكاكر. والكثير من رائحة الماضي التي لم تفارق الحوار، تمنّى على إثرها العودة إلى مسقط رأسه، ورؤيته من جديد.

"ولدت في مخيم الشاطئ للاجئين عام 1956، واستمرت طفولتي به لثماني سنوات، ثم بدأت أتنقل بين الأحياء، وأسافر إلى بلدان أخرى، إلى أن استقريت في حي تل الهوا جنوبي غرب غزة"، يقول الدكتور حمّاد، مشيرًا إلى أنّ طفولته كانت ملآى بالمغامرات، كثيرٌ منها كادت تودي بحياته.

"أن تعيش عليك أن تكون عصاميًا" قاعدة الصغر في حياة حمّاد، فلم يدارِ على مهنة الطفولة التي بدأها بـ"بائع ترمس وبزر" لأطفال سكناه، ثم تنقل عاملا من مصنع للخياطة، ومطعم، وقصارة، وارتقى إلى موظف في دائرة حكومية، إلى أن عمل في مجال التعليم الجامعي، وهو في الخامسة والعشرين من عمره.

أقلعت طائرة حمّاد أواسط السبعينيات من القرن الماضي، إلى السعودية، وما إن وطأت قدماه الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وضع نُصب عينيه الحصول على شهادة البكالوريوس والعودة إلى دياره.

يقول: "أنهيت البكالوريوس عام 1981 وعدت إلى القطاع، وقدّمت طلبًا للتعليم في الجامعة الإسلامية بغزة، وتمّ قبولي عضو هيئة تدريس فيها"، موضحًا أنّه عمل داخل أروقتها قبل 35 عامًا عندما كانت عبارة عن مجموعة خيام، وحتى غدت "صرحًا عظيمًا".

بروفيسور متميز

ولسن (35 عامًا) داخل أروقة الجامعة الإسلامية حكاية علمٍ، بدأت ببعثته إلى جامعة القاهرة بمصر؛ لدراسة الماجستير والدكتوراه، ولم تنتهِ شهاداته بعد، فقد حصل بداية العام الجاري على شهادة "أستاذ بروفيسور متميز في علوم الشريعة الاسلامية"، علمًا أنّه الوحيد في فلسطين الحاصل على هذه الدرجة في تخصصه.

"نشاطي العلمي في البحوث أوصلني إلى هذه المرحلة"، بهذه الكلمات تحدث حمّاد، مشيرا إلى أنّ الجامعة الإسلامية اشترطت ما يقرب من 20 شرطا للحصول على شهادة أستاذ بروفسور متميز، ولخص لنا الشروط بجملة هي "أن تكون معروفًا عالميًا بجهدك وعلمك".

وأكد أنّ بحوثه العلمية المحكمة التي تجاوزت الـ(50 بحثًا)، كانت سببًا في وصوله إلى هذه المرتبة، وتابع: "نشرت بحوثي في أكثر من 13 دولة، وكتابٌ لي تحت عنوان (مختلف الحديث) يدرّس في 7 جامعات دولية، أبرزها؛ تركيا والقاهرة، والأردن، وإندونيسيا، والإمارات".

ويضيف حماد: "أستمتع بكتابة الأبحاث، وإخراج نتاجٍ أدبي في مجال عملي"، لافتًا إلى أنّه أتقن نسج علاقاتٍ دولية، على إثرها يستطيع "التحدث مع أي زميل في العالم الإسلامي، وبلاد المغرب العربي، أو بلدٍ أوروبي".

في عالمه الخاص بين آلاف الكتب يعيش حمّاد، مؤكدًا أنّ "الخلوة بمفردات العلم وكتابته، تفرّغ من طاقته المتفجرة". مشيرًا إلى أنّه بمعزل عن "الشهرة والأضواء"؛ "خشية من أن يشار له بالبنان". وفق تعبيره.

وبابتسامة تحدٍ أكد أنّه "لن يسلّم بما وصل إليه من جهد"، ضاربًا المثل بقول الإمام أحمد عندما سُئل "إلى متى يكتب الإنسان الحديث. فأجاب: حتى يدخل في القبر".

حتى الثانية فجرًا يصارع نفسه في إعطاء راحةٍ للجسد وترك مكتبته، وكثيرٌ من الأيام يبقى أسير الكتاب الذي يقرأ، فيصحبه إلى سريره، ويكمل قراءته مستلقيًا على ظهره، حتى يغطّ في النوم لدقائق معدودة، ويصبح بنفس العزيمة التي أنهى بها يومه أمس، وهكذا يوميا.

نصيحة

ونصيحة عالمٍ طلبناها من الدكتور حمّاد، وجهها لطلبة العلم قائلًا إن "الوسائل الحديثة والبرامج المعتمدة الشبكة العنكبوتية؛ رُغم إفادتها إلّا أنّها تضر بالعلم، ولا تنشئ جيلًا متعلمًا".

ويقول: "أن تتلمس الكتاب بأناملك وتقرأه بأريحية في أي علمٍ من العلوم، له لذته ومتعته الخاصة (..) أمّا عالم جوجل فكل إنسان يكتب بما يهوى، ويقتبس بلا مصادر"، ناصحًا أن نتعامل مع الكتب كأصدقاء.

"وخير جليسٍ في الزمان كتاب".. من كلماتِ المتنبي صنع حمّاد مركب علمه الذي تجاوز الـ(50 بحثًا)، ستخرج في كتابٍ واحد، يضم أكثر من عشر مجلدات بعنوان "سلسلة الأعمال الكاملة للأستاذ الدكتور نافذ حمّاد".

لم يكتفِ بالتدريس في الجامعة الإسلامية التي ما زال على رأس عمله بها حتى اليوم، بل تابع أنشطته من خلال لقاءاتٍ على الفضائيات، والإذاعات المحلية، ودروسٍ وخطابة في مساجد قطاع غزة قاطبة.

"أمر يثير إزعاجك" سؤالٌ طرحناه على حمّاد، فأجاب سريعا: "خطر الروايات الواهية على الدين الإسلامي.. يوميًا أقرأ في الصحف وأسمع من الإذاعات والفضائيات والخطباء على المنابر؛ استشهادهم بأحاديث موضوعة وضعيفة جدًا".

وطالب بتخصيص برنامجٍ في الفضائيات المحلية للقضاء على "ظاهرة الأحاديث المكذوبة على الرسول"، وتحذير الناس منها.

إرادة مُقعَد

وعودا على بدء، فإن حمّاد كان يملك درجة الدكتوراه أثناء تعرضه لحادث السير الذي أقعده منذ ما يزيد عن (15 عامًا)، وبعده بعامين حصل على أستاذ مشارك، وفي أوائل عام 2015 وصل إلى (أستاذ بروفيسور متميز)، وهنا علّق قائلا: "لا يمكن أن تفهم معنى أن يكون الإنسان معاقا حركيًا إلا إذا عشتها فعليًا.. فكيف إن حصل على هذه المرتبة من الأستاذية، وأخرج نتاجًا علميًا بهذا الكم؟".

"وبجانب عملي الجامعي في تدريس الماجستير والدكتوراه بالجامعة الإسلامية، أعكف على إنهاء ثلاثة بحوث بين يدي، بدأت العمل بها بعد الدرجة العلمية الأخيرة، التي حصلت عليها"، يقول حمّاد، مؤكدًا أن درجة (بروفيسور متميز) تجبر العالِم على بذل جهدٍ إضافي.

وشدد على أن عمله لن ينضب "ولا يمكن أن يتوقف حتى آخر لحظة من دخولي القبر"، كما قال.

حمل حمّاد أمنية أعادته إلى مكان دراسته الجامعية، قائلًا والماضي يشخص أمام ناظريه: "أتمنى أن أعيش في المدينة المنورة ما تبقى من أيام عمري، وأن أؤدي صلواتي بالمسجد النبوي حتى الممات، وأدفن في البقيع، مقبرة المدينة المنورة".

شعور الحنين ما زال يراوده كلما سمع آذان المدينة المنورة، ويقول: "أتمنى أن أبقى قرب مسجد رسول الله ولا يعرفني أحد من البشر هنالك، وأترك هذه الدنيا وراء ظهري".

وأكثر ما يتمناه حمّاد أن "تشفع له خدمته في سنة المصطفى محمد، يوم القيامة، وتكون سببًا في إدخاله الجنة".

حكاية "ساجد"

"ساجد حمّاد" ذكرنا اسم ابنه على مسامعه، فحدّق النظر، وشبّك يديه، ثم طلبنا منه سرد حكاية غرقه.

"هو واحدٌ من 8 أبناء، يرث مني النشاط والعصامية في العمل"، يقول والد ساجد، متابعا: "ذهب قبل أعوام إلى تركيا ونسج علاقاتٍ اجتماعية بنفسه، وعاد لغزة.. تواصل مع أصدقائه بالخارج بعد قصف الاحتلال لمقر شركته ببرج الباشا بغزة -سجايا للإنتاج الإعلامي- فوعدوه بمنحةٍ دراسية شريطة قدومه لإسطنبول".

سعى ساجد للسفر بطريقةٍ رسمية لتلقي العلم، لكنّ جميع محاولاته باءت بالفشل، فاهتدى إلى السفر عبر "قوارب الموت" بسبتمبر من العام الماضي.

" لم أعلم أنّه سيسافر عبر هذه القوارب". يقول والده، ويردد مقولة لم ينفك يتداولها ابنه ساجد طيلة مكوثه في القطاع "على أرض غزة ما يستحق الحياة".

اختفى قارب الهجرة الذي استقله ساجد، وحاول الجميع الوصول إلى خبرٍ يقين، لكن عبثًا أن تجد ما يؤكد بقاءهم على قيد الحياة. وهذا ما جعل والده يرفض فتح بيت عزاء لابنه، "حتّى نعلم الخبر اليقين، بعيدًا عن تضارب الأنباء"، كما قال.

الأمل ببقاء ساجد على قيد الحياة هو ما يراه والده نصب عينيه، ويقول "لم يعلن رسميًا بأسماء الغارقين أو الناجين، ويبقى الأمل موجودًا علّنا نسمع خبرًا يسر القلب أنّهم على قيد الحياة".

اخبار ذات صلة