من اللافت للنظر أنه في البلدان التي حدثت فيها ثورات في العالم العربي، تجد التيارات الإسلامية السنية المعتدلة نفسها تتلقى الضربات القاسية، سواء من الأنظمة السياسية الفاسدة والمستبدة، أم من التيارات المتطرفة المسلحة المحسوبة على الإسلام.
وقد أخذ الخناق يضيق عليها بعد أن كانت تتصدر المشهد السياسي في المنطقة العربية خلال السنتين الأوليين للثورات والتغييرات في العالم العربي. ولا تكاد هذه التيارات تجد لنفسها موقعا في اللعبة الدموية التي فرضتها الأساليب العسكرية والأمنية للأنظمة في قمع شعوبها، وسياسات التكفير وإباحة إزهاق الأرواح التي فرضتها التنظيمات المتطرفة.
التيارات الإسلامية المعتدلة التي تملك رؤية حضارية للإصلاح والتغيير، وتملك قواعد جماهيرية واسعة، تعاني من سياسات وإجراءات التهميش والملاحقة والاستئصال من الأنظمة.. كما تعاني من الاتهامات بالكفر والردة والزندقة، ومن محاولات الاستئصال الدموية، من قبل القوى "الإسلامية" المتطرفة التي لا تجيد سوى هدر الدماء وقطع الرقاب، وتشويه الإسلام وسماحته وعدالته.
إنها سلمية مهدورة من الطرفين.. إنه اعتدال مرفوض و"محرم" و"مجرم" في رقصة الدم والموت التي يمارسها الطرفان.
يظهر ابتداء أن ثمة إشكالية في التوافق على معنى "الاعتدال"، إذ تسعى جميع الأطراف تقريبا إلى وصف نفسها بالاعتدال، باعتباره معيارا محبوبا ومرغوبا. وسواء أكان المتطرفون علمانيين أم إسلاميين أم قوميين أم يساريين، فإنهم يرون أن ما يفعلونه هو الحق، وأن الحق الذي يرونه هو معيار الاعتدال. فلا تكاد تجد أحدا ممن يقوم بإلغاء الآخر أو استئصاله أو تكفيره أو تهميشه، يصف نفسه بأنه متطرف وفق معاييره التي يؤمن بها.
وليس مجال هذا المقال الخوض في المصطلح وإشكالياته، وإنما أردنا أن نقول إن التيار الإسلامي المعتدل الذي نتحدث عنه هو تيار:
- ينتمي إلى التيار العام العريض للمسلمين، الذي تمسّك بالإسلام عبر التاريخ بوسطيته وبسماحته وبساطته دون إفراط ولا تفريط.
- ينتمي إلى الخط العام للمدارس الإسلامية الفقهية السنية التي ينتمي إليها معظم المسلمين.
- يتخذ من الإسلام منهجا لحياته ومرجعية لشؤونه، ومنطلقا للتغيير.
- يستوعب الآخر، ويتقبل الاختلاف، ولا يجنح إلى التكفير ولا إلى إسالة الدماء دون دليل قاطع لا يحتمل التأويل، وفق ما أقره علماء الأمة ومدارسها الفقهية.
- يرضى بالمشاركة في الحكم، والتداول السلمي للسلطة.
في الموجة المضادة للثورات والتغيير في العالم العربي، كان رأس الاعتدال الإسلامي الذي يملك مشروعا نهضويا وبرنامجا سياسيا تغييريا هو المطلوب. أما "الاعتدال" الذي أريد إبقاؤه أو استحضاره فهو النموذج الجبان المنافق الذي يصفق لأنظمة الفساد والاستبداد ويقدم لها "الفتاوى المعلبة".. إنه سلوك "النذل" الذي يقوم بدور "الشيطان الأخرس" وهو يرى سلخ الدين عن جوانب الحياة وعزله في زوايا المساجد، ويخلع لبوس القداسة والطاعة على "أكابر مجرميها".. ويسكت عن العمالة والتطبيع مع العدو، وعن ولاء وتبعية هذه الأنظمة لأميركا أو غيرها.
ولعل جوهر الإشكالية بالنسبة للأنظمة أو قوى التطرف أنها لا تستطيع أن تدخل مع هذا التيار الإسلامي النهضوي في منافسة شريفة شفافة تحكمها إرادة الشعب، وتحتكم إلى صناديق الاقتراع وإلى بيئة سياسية وإعلامية عادلة، تسمح للجميع أن يقدموا أنفسهم ومشاريعهم بأنفسهم وليس كما يقدمهم خصومهم.
في بيئة العمل الحر، يفوز الإسلاميون المعتدلون -أو يشكلون منافسا قويا على الأقل- في معظم انتخابات الاتحادات الطلابية والنقابات المهنية كالأطباء والمهندسين والصيادلة وأساتذة الجامعات.. وينشطون اجتماعيا وخيريا ويلتصقون بشكل واسع بالجماهير وهمومها وتطلعاتها. وقد مكنهم ذلك من تشكيل قطاع عريض من الكفاءات والخبرات المستندة إلى قاعدة شعبية حقيقية واسعة، وبالتالي أصبحوا من خلال مشروعهم الإصلاحي ومرجعيتهم الإسلامية يمثلون نقيضا أو بديلا حقيقيا لأنظمة فاسدة.
هذه التيارات التي تملك مزايا الرؤى الإصلاحية، والواقعية السياسية، والشرعية الشعبية، وفقه الأولويات، مثلت لعدد من الأنظمة مخاطر أكبر بكثير من مخاطر التطرف الإسلامي. ذلك أنها أخذت تقدم بديلا حضاريا سلميا ممكن التنفيذ، وقادرا على المنافسة، ويملك احتمالات النجاح في البيئة المعاصرة.
تعرف الأنظمة أنها تستطيع مواجهة التطرف أو محاصرته وضربه لأن القاعدة الجماهيرية الأوسع ترفضه، ولأنه لا يملك برنامجا نهضويا حقيقيا وواقعيا، ولا يملك الوعي السياسي، ولا أدوات إدارة حياة الناس. ولذلك أصبح الاعتدال الإسلامي الحركي (خصوصا في مصر والمشرق العربي حيث مركز المشروع الصهيوني في فلسطين المحتلة) ممنوعا من تولي القيادة السياسية أو الشراكة الفاعلة، أو حتى من مجرد التمتع بالحق الطبيعي في حرية النشاط والعمل السياسي السلمي.
في العراق، عانى التيار الإسلامي المعتدل من كافة أشكال السحق والاستئصال أثناء الحكم البعثي لصدام حسين. وعندما أسقط الأميركيون هذا النظام عام 2003، عاد التيار الإسلامي إلى البروز فكان الأكثر انتشارا والأكثر شعبية في الوسط السني العربي، والأنشط في المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الأميركي. لم يمضِ وقت طويل حتى كان السلوك الطائفي للنظام الجديد يضرب تجربة التعددية السياسية والنسيج الاجتماعي العراقي، ويتغول على الأجهزة والمؤسسات والوزارات، لتتآكل بذلك إمكانات الشراكة السياسية الحقيقية، ويحاصَر الإسلاميون في هامش ضئيل من القدرة على الفعل والتأثير.
وفي المقابل تفجرت حالة التطرف الإسلامي -بشقيها السني والشيعي- لتسمم الأجواء وتعبث بأمن الناس وحياتهم. تنظيم القاعدة الذي لم يكن له وجود، صارت أعداده بالآلاف في فترة وجيزة، وبدل أن يستنفد طاقته في مواجهة الاحتلال الأميركي، أخذ يستنفدها في الاستثارة الطائفية، وفي محاولة الاستئثار بالسيطرة على الساحة السنية بالقوة العسكرية، وأخذ يطالب الناس والعلماء والشخصيات بالبيعة له، ويقوم باستحلال دم واغتيال من لا يوافق هواه أو يقف في طريقه.. وهكذا قتل على يديه من عجزت العصابات الطائفية أو قوى الاحتلال الأميركي عن الوصول إليهم، لنصبح في العراق على مشهدي تطرف سني وشيعي، وفوقهما احتلال أميركي يمد رجليه وهو سعيد بتمزيق أشلاء العراق عرقيا وطائفيا.
وفي الأيام الماضية، ضاع الاعتدال السني بين تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والحشد الشعبي، فتأتي داعش لتسيطر على مناطق السنة وتتخلص من كل خصومها أو مخالفيها السنة. ثم إذا ما اضطرت داعش للانسحاب، تأتي مجاميع من الحشد الشعبي لتقوم بممارسات طائفية بشعة في من تبقى من أهل السنة، وليجري تفريغ مناطق واسعة في صلاح الدين وديالى والأنبار من أهلها السنة.
والآن تقف الموصل -بعد أن فقدت نحو ثلثي سكانها- بانتظار رقصة موت جديدة بالقنابل الأميركية أو بيد داعش أو بيد الحشد الشعبي.. إنها لعبة التطرف التي ترقص للدم والموت والخراب.
في مصر لم يشفع للإخوان والتيارات الإسلامية المعتدلة الظلم والعسف ومحاولات التهميش والاستئصال على مدى عشرات السنوات، ولم يشفع لهم أن يفوزوا في خمسة استحقاقات انتخابية بعد ثورة 25 يناير، ولم يشفع لهم أن يعضوا على جراحهم في التعامل مع مؤسسات الدولة وأجهزتها التي قامت بتعطيلهم وإفشالهم وتشويههم وتسليط البلطجية عليهم، بالرغم من أن الشعب أعطاهم فرصة إدارتها، بل قامت هذه الأجهزة بالانقلاب عليهم وعلى الديمقراطية الناشئة، ثم تم تتويج المأساة باحتفالية دموية سقط ضحاياها الآلاف في ميادين رابعة والنهضة وغيرهما، ليرجع الحكم إلى الدبابة وبسطار العسكر، ثم لتصل الملهاة قمتها بالحكم على الإخوان كجماعة "إرهابية". أما الذين سفكوا الدماء وأجهضوا التجربة الديمقراطية، فقد أوجدوا (ووجدوا) من يصفق لهم باعتبارهم "رموز الاعتدال".
وتوافق المحكمة الدستورية في مصر (المحسوبة على النظام السابق) على الطعن في شرعية مجلس النواب المصري وتقضي بحله، بعد أن جاء في أنزه انتخابات شهدتها مصر في تاريخها وأكثرها شفافية، فيصفق معادو التيار الإسلامي لذلك، وينظّرون لاحترام القضاء وأحكامه، ويعلن الإخوان والإسلاميون احترامهم للقضاء.. بالرغم من فوزهم الباهر في المجلس، دون أن يشفع لهم ذلك بشيء.
وعندما تقضي المحكمة الدستورية في ليبيا بعدم شرعية المجلس النيابي المنتخب، ترفض تيارات علمانية وانفصالية ومعادية للثورة -ومن خلفهم النظام الانقلابي في مصر وأنظمة خليجية وغيرها- قرار الدستورية، ويصرون على شرعية المجلس والحكومة المنبثقة عنه، ولو كانت الأغلبية للإسلاميين لكان موقفهم مغايرا.
ينتفض الشعب السوري في مارس/آذار 2011 ويخرج مئات الآلاف في مدن سورية مطالبين بالإصلاح والتغيير، ويستمر الأمر لأشهر، وتسود التيارات الإسلامية المعتدلة في أجواء المعارضة، لكن النظام يختار الحل الأمني والعسكري، فيسحق كافة مظاهر المعارضة السلمية، ويضع خصومه في خانة "الإرهاب" و"المؤامرة الكونية" على سوريا.
وفي الوقت ذاته يطلق سراح المئات من المحسوبين على القاعدة أو التيارات الإسلامية المتطرفة، وتدخل سوريا في دوامة العنف، ويتم تمزيق النسيج الاجتماعي والبنى التحتية والاقتصادية للبلد، على وقع التجييش الطائفي والنزاع الدموي والتدخل الخارجي. وتنزوي أصوات الاعتدال، ويتم تهميش الوسطية الإسلامية المتسامحة التي تميز بها الشعب السوري طوال تاريخه.
وفي اليمن رغبت بعض القوى الخليجية والعالمية في تلقين الإسلاميين -خصوصا التجمع اليمني للإصلاح الذي كان له الدور الأبرز في الثورة اليمنية- درسا قاسيا لتجرّئهم على حليفهم الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، فغضت الطرف عن التمدد الحوثي وعن تحالفه غير المقدس مع الرئيس المخلوع، سعيا لإغلاق ملف الثورة، وللإيقاع بالإصلاح في مواجهة غير متكافئة تستأصله أو تهمشه أو تحوله إلى جماعة "إرهابية"، إذا ما دخل في المعارك دون غطاء رسمي.
لكن محاولتهم تفشل مع انكشاف اللعبة وانسحاب الإصلاح من المواجهة، ثم ينقلب السحر على الساحر بالتمدد السريع للحوثيين، وباستعجال الرئيس المخلوع الانتقام من خصومه، وبقطف إيران لثمار التغيير، لتعيد بعد ذلك دول الخليج حساباتها، فتقوم بعاصفة الحزم وتمد اليد إلى الإصلاح من جديد.
ستثبت الأيام القادمة أن القرارات التي اتخذتها أنظمة عربية باعتبار "الإخوان المسلمين" حركة "إرهابية"، والإجراءات التي اتخذتها في مواجهة التيار الإسلامي المعتدل، هي من أسوأ القرارات والإجراءات التي اتخذتها في تاريخها.
ربما أخطأ الإخوان ومن معهم من التيارات الإسلامية المعتدلة هنا أو هناك، ربما استعجلوا، ربما لم يكونوا جاهزين تماما لاستحقاقات التغيير وإدارة الدولة، ربما افتقد بعض رجالاتهم للكاريزما القيادية، أو للروح الثورية، أو للقدرة على بناء التحالفات، ولكن ذلك لا يبرر استئصالهم أو تهميشهم، فضلا عن أن ذلك غير ممكن عمليا.
البلدان التي اختارت مواجهة الاعتدال الإسلامي أمنيا وعسكريا، ووضعت صندوق العتاد مكان صندوق الاقتراع، ستدفع أثمانا هائلة، لأنها فتحت الأبواب على مصراعيها للتطرف والعنف، ولأنها تركت القواعد الجماهيرية الواسعة للتيارات الإسلامية دونما خيارات متاحة، ودونما آفاق مستقبلية.
وبما أن هذه الأنظمة لا تملك أي برامج حقيقية للنهضة والتنمية والحريات وحقوق الإنسان، فإن بذور أزمتها ستبقى في ذاتها، وستستفيد التيارات الإسلامية المعتدلة (التي تلقت دروسا قاسية) من تجربتها، وليس بعيدا أن تنفجر الموجة الثورية التالية في وجه تلك الأنظمة مهما حاولت تأخيرها، وستكون هذه الموجة أكثر قوة وأكثر قدرة على اقتلاع الأنظمة الفاسدة وتغييرها.
المصدر: الجزيرة