أ. يوسف علي فرحات
1- نظام العقوبة في الشريعة الإسلامية من مظاهر رحمة الله - سبحانه وتعالى - بعباده، فالعقوبة في حق الجاني مصلحة له ورحمة به فهي بمنزلة الكي بالنسبة للمريض المُحتاج إليه، وبمنزلة قطع العضو المتآكل، فإن بهذا القطع وذلك الكي مصلحة له وإبقاءً لحياته وإيقافاً للمرض من السريان وإهلاك الجسم كله. [ أصول الدعوة ، عبد الكريم زيدان ، ص272]
2- إن العقوبة لا تصيب إلا من ارتكب الجريمة وذلك لقوله تعالى: ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)]الاسراء: من الآية15] وهذه الخاصية تحقق منتهى العدل للإنسان. ولا يناقض هذه الخاصية فرض الدية على العاقلة (العشيرة) لأن ذلك من قَبيل التعاون بين الأقارب أخذاً بالقاعدة الشرعية: " الغُرْم بالغُنْم " فأفراد العائلة يتوارثون فيما بينهم وهو غُنْم ولابد أن يتحملوا الغُرْم وهو الدية فيما بينهم [دراسات في الثقافة الإسلامية ، صالح ذياب هندي ص194].
3- العقوبة في الشريعة تطبيق على جميع من قامت فيهم أسبابها وشروطها لا فرق بين شريف ووضيع وقوي وضعيف، ، ليس هناك حصانة لأحد ، فالإسلام لا يحصن إنساناً ارتكب جريمة وقامت عليه الأدلة ، كل الناس سواسية كأسنان المشط أمام أحكام الله تبارك وتعالى 0 وإن المحاباة في إنزال العقوبات الشرعية سبب لهلاك الأمة، جاء في الحديث الشريف أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ) [أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء ، رقم 2216] والواقع أن المساواة بين الرعية في إقامة العقوبات خير رادع للأقوياء الذين قد تسول لهم قوتهم الإجرام لما يظنونه من محاباة لهم بسبب قوتهم وعدم معاقبتهم .
4- العقوبات الشرعية بنيت على أساسين كبيرين:
الأول: العدل . والثاني: الردع. ويظهر الأساس الأول –العدل- في أن العقوبة بقدر الجريمة، قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) [الشورى: من الآية40] فليس فيها زيادة على ما يستحقه المجرم . ومن العدل أن تخفف عمَّن يستحق التخفيف 0 ولذلك من عجائب ما جاءت به هذه الشريعة أنها جعلت عقوبة الحر ضعف عقوبة العبد ، فالعبد يُخفف عنه على غير ما كان عند الرومان وغيرهم ، حيث كان العبيد يقتلون في جرائم بسيطة ، وكان الأشراف والنبلاء ، إذا قتلوا عند الرومان لا يقتص منهم خصوصاً إذا قتلوا أحداً من الطبقات الدنيا 0 لذلك قال الفقهاء : إن عقوبة العبد نصف عقوبة الحر في الكم وفي الكيف ، حتى قالوا : إن السوط الذي يجلد به العبد إذا ارتكب جريمة يجب أن يكون أخف من السوط الذي يضرب به الحر لأن هذا من مقتضيات التخفيف 0
ومن العدل أن تُراعى ظروف الإنسان ، إذا كان جاهلاً ، لذا قال الفاروق عمر رضي الله عنه : لا حد إلا على من علمه ، فمن يجهل أن السرقة حرام مثلاً لأنه كان في بادية لم يسمع بأحكام الإسلام أو كان حديث عهد بإسلام أو نحو ذلك ممن يعذر بجهله فيخفف عنه 0
ويظهر الأساس الثاني –الردع- في مقدار الألم الذي تُحدثه العقوبه في المجرم.
5- أن العقوبة قد شُرعت لحفظ المصالح الكلية التي أجمعت الشرائع على وجوب حفظها، وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال فقد قررت الشريعة لحفظها عقوبات مقدرة هي عقوبات : الحدود والقصاص وشددت فيها العقوبة، ولم تجعل للحاكم سلطاناً في العفو عنها أو النقص منها.
وعلة التشديد أن هذه الجرائم تُهدد المصالح الضرورية التي لا تستقيم الحياة بدونها ولا غنى للناس عنها فالتساهل فيها يؤدي إلى انتشار الجرائم وتَحلل الأخلاق وفساد المجتمع واختلال أمنه ونظامه ، لذا فلا عجب أن تُهمل شخصية الجاني ويُضحى بمصلحته في سبيل الجماعة[انظر التشريع الجنائي في الإسلام ج1/612-613 ].
قال ابن القيم رحمه الله: " فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات وكان من المعلوم أن الناس لو وُكِلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنساً ووصفاً وقدراً لذهبت بهم الآراء كل مذهب وتشعبت بهم الطرق كل مَشْعَب ولعظم الخلاف واشتد الخطب فكفاهم أرحم الراحمين أحكم الحاكمين مؤنة ذلك وأزال عنهم كلفته وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعاً وقدراً ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة ويليق بها من النكال".[إعلام الموقعين 2/ 100] .
6- أن العقوبات الشرعية تحقق العدل بين الجاني والمجني عليه وتجعل الجزاء من جنس العمل فَتشفي صدر المجني عليه وتحفظ له حقه وتنتزع من نفسه حب الثأر والانتقام والشعور بالظلم والهضم " إن من حكمة الله ورحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال كالقتل والجراح والقذف والسرقة فأحكم –سبحانه- وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الرد والزجر مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع فلم يشرع في القذف قطع اللسان، ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء ، ولا في السرقة إعدام النفس ، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته وعدله لتزول النوائب وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان " [انظر: إعلام الموقعين 2/ 99 ]
وهذا ما تفتقده القوانين الوضعية التي يترتب عليها تغييب مصلحة الجاني والشفقة عليه وإهمال مصلحة المجني عليه وبخسه حقه وعدم إنصافه ممن جنى عليه. وهذا من شأنه أن يُجرئ الجاني، ويجعله يسترسل في الإجرام والعدوان، ويملأ نفس المجني عليه بالحقد والضغينة ويحمله على الثأر والانتقام. [انظر: مجلة البيان- تصدر عن المنتدى الإسلامي- السنة الثامنة عشرة- العدد 192- شعبان 1424هـ- من مقال بعنوان الخصائص التي تميز العقوبات الشرعية للدكتور عبد العزيز بن فوزان بن صالح الفوزان ص22 ].
7- أن العقوبات الشرعية حين تُنفذ على المسلم تجعله يشعر بالندم على تفريطه في جنب الله لأنها عقوبة الله التي حلت به جزاء ما اقترفته يداه، والندم هو أول طريق التوبة والعودة إلى الله والإقلاع عما يسخطه ويأباه فكانت العقوبة الشرعية سبباً لحصول الندم والتوبة الصادقة إلى الله . أما العقوبات الوضعية فمن الملاحظ فيها أن المجرم إذا أفلت منها ازداد ضراوة وجراءة ، وإذا عُوقب بالسجن مدة طويلة أو قصيرة فإنه يخرج منه وقد اشتد طغيانه وامتلأت نفسه بالحقد الدفين وتعلم كثيراً من وسائل العدوان والإجرام ، وفي السجن تنهار آدميته ويقسو قلبه ولا خُلق يمنع ولا ضمير يُهذب ولا شرع يؤلف ويقرب[انظر: المصدر السابق ص 23 والعقوبة لأبي زهرة ص22] .