أ. يوسف علي فرحات
العقوبة لغة : من عَقِب : أصل يدل على تأخير شئ وإتيانه بعد غيره ، تقول عاقبت الرجل معاقبة وعقوبة وعقاباً ، وإنما سُميت عقوبة لأنها تكون آخراً وثاني الذنب. والعقاب والعاقبة:أن تَجزي الرجل بما فعل ، والاسم العقوبة وعاقبه بذنبه معاقبة وعقاب : أخذه به
ويعرفها علماء الشريعة بأنها : هو ما شرعه الإسلام من حدود وقصاص وتعزيز بحق الجرائم المتعلقة بحقوق الله وحقوق عباده حفظا لهم من الاعتداء عليها [دراسات في الثقافة الإسلامية ، صالح ذياب هندي- ص193] . أوهى: فعل أو ترك نصت الشريعة على تحريمه والعقاب عليه .
وبناء عليه فالجريمة في الاصطلاح الفقهي يجب أن تتوفر فيها الأمور التالية:
ا- أن تكون من المحظورات الشرعية أي ما نهى عنه الشرع الإسلامي ، نهي تحريم لا نهي كراهة بدليل وجود العقاب على مرتكب هذه المحظورات .
2- أن يكون تحريم الفعل أو الترك من قبل الشريعة الإسلامية فإن كان من غيرها فلا يُعتبر المحظور جريمة .
3) أن يكون للمحظور عقوبة من قِبل الشرع الإسلامي سواء أكانت هذه العقوبة مُقدرة ، وهي التي يسميها الفقهاء بـ" الحد " أو كان تقديرها مُفوضا إلى رأي القاضي ، وهي التي يسميها الفقهاء " التعزيز" ، فإذا خلا الفعل أو الترك من عقوبة لم يكن جريمة.
مقصد الشريعة من سن العقوبة:
إن الأصل في الجزاء في الشريعة هو جزاء الآخرة ولكن مقتضيات الحياة وضرورة استقرار المجتمع وتنظيم علاقات الأفراد على نحو واضح وضمان حقوقهم ، كل ذلك دعا إلى أن يكون مع الجزاء الأخروي جزاء دنيوي، وهذا الجزاء هو العقوبة التي توقعها الدولة على من يرتكب محرماً أو يترك واجباً، أي يرتكب جريمة، وبهذا العقاب تنزجر النفوس التي لم ينفعها الوعظ والتذكير. والحقيقة أن الشريعة الإسلامية تُعنى بإصلاح الفرد إصلاحاً جذرياً عن طريق تربيته على معاني العقيدة الإسلامية، ومنها مراقبته لله وخوفه منه وأداء ما افترضه عليه من ضروب العبادات وهذا كله سيجعل نفسه مِطواعة لفعل الخير كارهة لفعل الشر بعيدة عن ارتكاب الجرائم، وفي هذا كله أكبر زاجر للنفوس. وبالإضافة إلى ذلك فإن الشريعة تهتم بطهارة المجتمع وإزالة مفاسده، ولهذا ألزمت أفراده بإزالة المنكر. ولا شك أن المجتمع الطاهر العفيف سيساعد كثيراً على منع الإجرام وقمع المجرمين، وسيقوي جوانب الخير في النفوس ويسد منافذ الشر التي تطل منها النفوس الضعيفة، وفي هذا ضمان أيضاً لتقوية النفوس وإعطائها مناعة ضد الإجرام [عبد الكريم زيدان ، أصول الدعوة- ص271.]
ولكن مع هذا كله، فقد تُسول للبعض نُفُوسهم ارتكاب الجرائم، فكان لابد من عقوبة عاجلة توقعها الدولة الإسلامية عليهم، وهذه العقوبة سواء في الشريعة الإسلامية أم في القوانين الوضعية تتجه إلى تحقيق جملة الأهداف:
1- تأديب الجاني:
وهو راجع إلى المقصد الأسمى من الشريعة الإسلامية، وهو إصلاح الفرد والجماعة، ومنع الفساد عنهما ولا عبرة بالمصلحة الخاصة، وإنما العبرة بدفع المفسدة الخاصة والعامة، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح، مع العلم بأن تحقيق مصلحة الفرد تكون بزجره عن ارتكاب الذنب، قال تعالى في بيان الغاية من حد السرقة: (جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة: من الآية38] ولذلك شدَّد سبحانه في إيقاع العقوبة على المجرم في الحياة الدنيا: ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّه) [النور: من الآية2] كما بين أن العذاب الأليم في الآخرة جزاءً لمن لم يصدق في توبته، قال تعالى في وعيد من قتل مؤمناً: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) [النساء:93] . وحين استهدفت الشريعة الانزجار عن الذنب بتشديدها، جعلت مجالاً للرحمة مفتوحاً بابه بإسقاط الحد بالشبهة وتوبة الجاني إذا لم يقع تحت سلطان الدولة أو لم يثبت عليه الذنب بالبينة. [انظر: المؤيدات التشريعية، عبد العزيز الخياط، ص38 دار السلام ط2 ، 1406هـ -1986م ]
2- إرضاء المجني عليه:
وذلك لأن المجني عليه في نفسه أو ماله أو أهله، والمروّع بوقوع الجريمة عليه، والاعتداء عليه، إنسان له حقه وكرامته، وأمنه واطمئنانه، فلابد من إنصافه منها برفع الحيف عنه ومعاقبة الجاني، فإذا لم يرض بأن أهمل الجاني فلم توقع عليه العقوبة، أو لم تُحصّل الأموال منه إذا كانت الجناية سرقة، أو لم يُنتصف منه حسب ما أمر الشرع ، فإن ذلك يؤدي إلى نقمة المجني عليه ، أو نقمة أهله إذا كانت الجناية قتلاً، فيؤدي ذلك إلى استشراء الجرائم بالثأر والانتقام ، والفتك بالمجرم أو عشيرته أو ذويه ولذلك قال تعالى: ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوف)[البقرة: من الآية178] وقال تعالى: ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْل)[الاسراء: من الآية33] وشدّد الرسول على جعل دماء الجاهلية موضوعة، كل ذلك لإرضاء المجني عليه حتى لا تقع الفتنة ويضطرب حبل الأمن، ويختل نظام الأمة بطلب الثارات والانتقامات الفردية [ المرجع السابق ]
3- زجر الآخرين عن الاقتداء بالجاني:
فالعقوبات شرعت زواجر وجوابر: أما كونها زاجرة فقد شرعها الله - سبحانه وتعالى - قمعاً للشر في النفوس وتخويفاً لمن لا تقوى عنده بالعقاب المادي في حياته الدنيوية، فهي تؤدب الجاني وتزجر غيره عن طريقته واتباع منهجه في الشر، وفي هذا يقول بعض الفقهاء عن العقوبات: "إنها موانع قبل الفعل زواجر بعده " أي العلم بشرعيتها يمنع الإقدام على الفعل وإيقاعها بعده يمنع العودة إليه. [شرح فتح القدير على الهداية للكمال بن الهمام 4/112] . لذلك أكثر الله - سبحانه وتعالى - في حد الزنا على ضرورة أن يشهد الحد طائفة من المؤمنين ، وأن يكونوا من عامة الناس وخاصتهم ، وذلك زيادة في التنكيل والتخويف وتحقيقاً للاعتبار.
والمجتمع حين ينزجر أفراده عن ارتكاب الجرائم ويبتعدون عن المنكر خشية وقوع العقوبة عليهم تشيع فيه الطمأنينة والأمن وينصرف الناس فيه إلى العمل والانتاج ويزدهر رخاؤه ويطمئن أفراده على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ولذلك اعتبر القرآن الكريم قتل الإنسان جناية بمثابة قتل الناس جميعاً وإحياءها إحياء للناس جميعاً. قال تعالى: ( مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا)[المائدة: من الآية32] وأما كونها جابرة: وذلك لأن فيها مصلحة للجاني من جهة أنها طهره لنفسه وجبراً لذنبه كما أنها تُسقط عنه عقوبه الآخرة وذلك إذا اقترنت بالتوبة الصادقة النصوح والدليل على ذلك حديث عبادة بن الصامت t قال: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ( بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِك ) [أخرجه البخاري في كتاب الإيمان ، رقم 17 ] .