يتزاحم المواطنون على بوابة هيئة الشئون المدنية غرب مدينة غزة وتتعالى أصوات الغاضبين منهم على أداء الهيئة التي تعتبر حلقة الوصل مع الاحتلال (الإسرائيلي) والمسئولة عن التنسيق وإصدار التصاريح للسفر عبر معبر بيت حانون.
اقتربت "الرسالة" من الحاج أبو أحمد الذي تجاوز الخمسين عامًا وقد ملأ المكان بصراخه، حاولنا تهدئته والحديث معه لكنه استمر في الصراخ تعبيرا عن استيائه مما أسماه مماطلة الوزارة في إصدار التصاريح التي تسمح له بالدخول إلى الأراضي المحتلة عبر معبر "بيت حانون".
أبو أحمد هو أحد التجار المستوردين للبضائع من داخل الأراضي المحتلة، منذ أعوام عدة، يقول "هذه وزارة دجالة وتتعامل بالمحسوبية والرشاوى".
ويضيف "كنت اتنقل عبر المعبر بشكل طبيعي؛ وذلك بإصدار تصريح السفر بعد يوم من تقديمه، لكن ما يحدث الآن هو تأجيل ومماطلة في استخراج التصاريح، وبحجج التنسيق الأمني".
ويقول: "تقدمت بطلب إصدار تصريح وبعد أن استكملت كل الاجراءات وفق المعايير التي وضعتها الوزارة، ما زلت أنتظر تصريحي منذ أسابيع، ويومياً أزور مقر الهيئة لكن دون فائدة".
ويوضح أن الوزارة تضع شروطًا للتجار والمواطنين الراغبين في السفر، لكنها "لا تلتزم بها، وتتعامل بأسلوب الرشاوي والواسطة".
أبو أحمد ليس الوحيد الذي يصب جام غضبه على الوزارة بل تزايدت الشكاوى منذ بداية العام الجاري وبالتزامن مع زيادة التصاريح والتسهيلات التي قدمها الاحتلال للسفر عبر معبر بيت حانون وبدأت تحوم الشبهات حول أداء هيئة الشئون المدنية في غزة، حيث يوجه العديد من المواطنين وحتى الكتاب والمثقفين التهم للهيئة بأنها غير نزيهة وتتعامل بالرشاوى والمحسوبية وتحابي البعض وتسهل لهم اصدار التصاريح بينما تعطل تصاريح أخرين.
الشكاوى المتلاحقة دفعت الرسالة للبحث خلف صحة هذه الاتهامات الموجهة لهيئة الشئون المدينة.
امتيازات للفاسدين
ورغم الغضب الكبير على الشئون المدنية من المواطنين إلا أن المعظم يرفض الحديث صراحة عن ذلك في الإعلام-خاصة التجار والمرضى-خوفاً من تعطيل تصاريحهم ومصالحهم ومنعهم من السفر، خاصة ان الهيئة هي المخولة بالتنسيق مع الاحتلال وإصدار التصاريح.
ابراش: فساد الشؤون المدنية لا يقتصر على التصاريح بل كل ما يتعلق بقضايا الإعمار والمعابر
"الرسالة" تواصلت مع العديد من المواطنين والتجار الغاضبين على الهيئة، لكنهم رفضوا التعليق على الموضوع أو الحديث عما تعرضوا له خلال محاولاتهم إصدار تصاريح، خشية منعهم من السفر أو نتيجة لوعود تلقوها بتسهيل معاملاتهم بعد أن أبلغوا شكاواهم للمسئولين.
معدا التحقيق استطاعا الوصول الى أحد التجار الذين تقدموا بطلب تصريح للدخول إلى الخط الأخضر وذلك بعد ان حصل على الأوراق اللازمة واستيفاء الشروط، لكنه انتظر قرابة شهرين قبل أن يصدر تصريحه وفي كل مرة كان يسأل عن سبب التأخير لكنه لا يجد جواباً شافياً من موظفي الهيئة حتى نصحه أحد التجار بأن يقدم رشوة لأحد المسئولين فيها وبالفعل بعد أن دفع مبلغ من المال عن طريق أحد الاشخاص صدر تصريحه.
ووسط الغموض والالتباس الذي يشوب عمل الهيئة وشبهات الفساد الكثيرة التي تحوم حولها فجّر الكاتب ابراهيم ابراش القضية حينما تحدث في مقالة له عن فساد كبير في هيئة الشؤون المدنية التي لا يُعرَف لها أي مرجعية وطنية واضحة.
"الرسالة" بدورها توجهت له لاستيضاح القضية أكثر وقال في حديثه معها "القيادات والمسئولون الكبار سواء في فتح أو فصائل منظمة التحرير أو المجلس التشريعي أو منظمات حقوق الإنسان لا يجرؤون على فتح ملفات حول شبهات فساد وخصوصا في هيئة الشؤون المدنية، خوفا أن يخسروا التسهيلات والامتيازات التي يوفرها لهم الفاسدون -مع أنها حق لهم وليس مِنَّة من الشؤون المدنية".
وتابع "لا ينتظرون من المواطن المقهور الذي ترتبط حياته بتصريح الخروج من غزة للعلاج أو العمل أو الدراسة أو التجارة أو رجل الأعمال الذي يتم مساومته لتزوير قيمة الأضرار لمنشأته المُدَمَرة الخ، لا يُنتظر من هؤلاء أن يواجهوا الفاسدين ويتحدثوا علنا عما يعرفوا وعما تعرضوا له من ابتزاز"، مضيفاً أن المواطنين لا يثقون بأن الحكومة والسلطة والمنظمات الحقوقية يمكنها، تحميهم وتنصفهم إن عاقبهم الفاسدون بحرمانهم من السفر أو أعاقوا حصولهم على تعويضات منشئاتهم المُدمرة في الحرب".
السراج: اكتشفنا أشخاصا ومكاتب تزيف الأوراق مقابل رشوات والبعض ينسق مع الاحتلال مباشرة
وأكد ابراش أن ما يجري في وزارة الشؤون المدنية لا يقتصر على التصاريح بل عن كل ما يتعلق بقضايا الإعمار وحركة المعابر.
ولفت ابراش إلى أن عدم وجود مرجعية واضحة لعمل الهيئة فتح الباب واسعاً أمام المسئولين فيها للفساد، كما أن الانقسام وغياب الجهات الرقابية زاد من حجم التجاوزات الموجود فيها.
ورغم نشر الهيئة لمعايير إصدار التصاريح إلا ان أبراش أكد أن التغير في المعاملة من طرف هيئة الشؤون أمر إيجابي، ولكن يجب الحذر أن يكون ذلك في إطار اصطناع زوبعة في فنجان، للزعم بأن الوزارة استجابت لحالة التذمر الشعبي والغضب عليها، لافتاً أنه قد تعود الامور الى اسوأ مما كانت عليه في حال لم تتم محاسبة أو إزاحة كبار المسئولين في الهيئة.
ونفى ابراش ما أشيع ان الخلاف مع الوزارة شخصي، مؤكداً انه مواطن ومن حقه رفع صوته بالشكوى في حال تعرض للظلم، مؤكداً أنه لم يُطلب منه دفع رشوة لكنه يعرف الكثير ممن اضطروا لدفع اموال لمسؤولين في الوزارة من اجل الحصول على تصاريح، معربا عن امله في ان ترفع الهيئة قضية ضده في المحاكم حتى يقدم الادلة التي بحوزته.
نحاسب المتجاوزين
هذه الاتهامات أثارت حفيظة ناصر السراح وكيل هيئة الشئون المدنية في غزة، حيث أكد أن كل ما يكال الى الهيئة من اتهامات غير صحيح.
وقال السراج في حديث لـ "الرسالة": "أي شخص لديه أي شكوى أو ملف فساد ضدنا فليتقدم به إلى النائب العام، أو إلى أي جهة يريدها".
واستنكر الاتهامات الموجهة لهم من بعض الشخصيات والمكاتب في غزة، مضيفاً "كل شخص يتهمنا بالفساد، ولديه معلومات يتوجه لنا قبل التوجه للإعلام".
إصدار التصاريح وهي نقطة الخلاف الكبيرة بين الهيئة والعديد من الجهات، أكد السراج أن هناك مكاتب وأشخاص تعمل على تزييف الدعوات والفواتير (الإسرائيلية)، مقابل رشوات- لم يسمها- ، مشيراً إلى أنه تم اكتشافهم من الاحتلال (الإسرائيلي).
وأكد أنه سيتم محاسبة كل من تسول له نفسه، بتجاوز صلاحيات الهيئة في التنسيق والتواصل مع الجانب (الإسرائيلي).
وتابع "هناك تجاوز لدور الشؤون المدنية من بعض الشخصيات الموجودة في غزة والضفة، لكنا تعرفنا عليهم"، محذراً اياهم من إصدار تصاريح لزيارة الأراضي المحتلة قائلا "كل من يضبط سيتم التبليغ عنه".
مصادر: إصدار التصاريح بعيدا عن الهيئة يثير غضب المسئولين فيها والقضية تقع ضمن صراع الكبار في السلطة
في حين أنه نفى أن يكون لأي أطراف في السلطة يد في إصدار التصاريح واصفاً تلك الاتهامات بـــ "غير الدقيقة".
وفيما يتعلق بإصدار تصاريح رجال الأعمال، أكد أن وزارته هي الجهة الوحيدة المخولة بإصدار تصاريح لرجال الأعمال، مشيراً إلى وجود بعض الجهات التي تعمل على تزييف الأوراق الرسمية للحصول على تصاريح تجارية.
وأوضح أن قوات الاحتلال (الإسرائيلي) ضبطت بعض الأشخاص المزورين وأبلغت الوزارة أنها ستمنع دخول أي رجل أعمال لم يحصل على تصريح من الشؤون المدنية.
إضافة إلى ذلك، فإن السراج بيّن أن الاحتلال أصدر شروطا جديدة لدخول رجال الأعمال إلى الضفة، وجرى العمل بها منذ شهر تقريباً.
والشروط هي أن يكون صاحب شركة حقيقية وغير حامل لأوراق مزيفة، وإثبات أنه أدخل بضائع عبر معبر "كرم أبوسالم"، مع توضيح كل التفاصيل المتعلقة بذلك.
صراع المتنفذين
كان واضح غضب السراج من وجود عملية تنسيق واصدار تصاريح بعيداً عن الشئون المدنية، لكن حديثه عن عدم وجود أطراف في السلطة تنسق بعيداً عن الهيئة غير دقيق بحسب المصادر التي قابلتها "الرسالة".
ويعتبر السراج ذراع حسين الشيخ وزير الشئون المدنية في غزة وأداة الأخير لتنفيذ سياسته ورؤيته في كل ما يتعلق بقطاع غزة وهو أحد أقطاب الصراع الدائر بين الشخصيات المتنفذة في رام الله.
مصادر خاصة "للرسالة" أكدت أن عملية إصدار التصاريح تقع في دائرة صراع الأقطاب في السلطة، وكشفت عن وجود أطراف عديدة في السلطة في رام الله تصدر تصاريح لأشخاص من غزة دون الرجوع للشئون المدنية وهي مكتب الرئيس وجهاز المخابرات التابع لماجد فرج، بالإضافة إلى بعض عناصر الاجهزة الامنية السابقة في غزة والتي تنسق مباشرة مع القيادات الامنية في الضفة.
كما كشفت ان بعض الشخصيات تنسق مباشرة مع ضباط في الجيش (الإسرائيلي) وتحصل على تصاريح للتنقل بين غزة والضفة دون الرجوع للشئون المدنية او أي جهة فلسطينية.
وبينت المصادر إن إصدار التصاريح بعيداً عن الشئون المدنية يثير غضب المسئولين فيها ويخلق اشكاليات كبيرة بين أقطاب السلطة لأن كل طرف منهم يريد ان يكون المتحكم والمتنفذ في إصدار التصاريح للمواطنين او الشخصيات العامة من باب استحواذه على تلك الميزة.
وأوضحت أن الشئون المدنية تتعمد تعطيل او منع سفر كل من ينسق مع أطراف أخرى على بوابة بيت حانون، باعتبار انها الجهة المتحكمة قبل الوصول الى الطرف (الإسرائيلي) وهذا سبب خلافها مع الكثير من الشخصيات.
شبهات فساد
وأشارت مصادر الرسالة إلى ان فساد الشئون المدنية لا يتمثل في المحسوبية وتلقي الرشاوى فقط بل وصل إلى حد تبادل الخدمات وتغطية كل منهم على فساد الاخر.
شبهات الفساد في الشئون المدنية وصلت إلى عقد صفقات مع بعض رجال الاعمال للحصول على امتيازات لها علاقة بملف اعمار غزة وتوزيع الاسمنت ومواد البناء الاخرى، وذلك ما دفع عدد كبير من التجار إلى مهاجمة المقر الرئيسي للوزارة في غزة أواخر العام الماضي احتجاجاً على ما أسموه المحسوبية في توزيع الاسمنت على شركات دون أخرى.
أمان: نشر معايير إصدار التصاريح خطوة في الاتجاه الصحيح ويجب مراقبة التزام الهيئة بها
ويتبادل رجال أعمال في غزة أحاديث حول دفع رشاوي مالية كبيرة مقابل الحصول على بطاقات الـ BMC "بطاقة تمنح لرجال الأعمال تسمح لهم بالتنقل بين غزة والضفة وداخل الخط الأخضر"، وأخرى مقابل إدراج بعض الشركات على قائمة موردي الاسمنت.
وتؤكد المصادر ان الوزارة تستغل قضية المنع الامني من الجانب (الإسرائيلي) لابتزاز التجار واجبارهم على دفع رشوة مقابل رفع اسمائهم من قوائم المنع.
وتزايدت الشكاوى على هيئة الشئون المدنية منذ مطلع العام الجاري بالتزامن مع جملة التسهيلات التي قدمها الاحتلال للمواطنين في غزة وتوسيع دائرة المسموح لهم بالسفر عبر بيت حانون، خاصة فئة الشباب والذين كانوا في السابق طوال سنوات الحصار من المحرم عليهم اجتياز بوابة "ايرز".
التاجر محمد - اسم مستعار- الذي يصطف في "طابور" الانتظار في بالوزارة، علها تشفق عليه وتصدر له التصريح الذي قدمه منذ أكثر من شهر.
فيقول محمد الذي يعمل في مجال التجارة الحرة "قدمت طلب لتصريح دخول في أواخر شهر رمضان".
ويضيف والعرق يتصبب من جبينه، نتيجة الإرهاق من طول الانتظار "أكثر من شهر ونصف وهم يماطلوا في خروج تصريحي، وبحجج تأخير التنسيق الأمني وغيرها".
ويحاولون إبعاد الشكوك من حولهم تحت ذريعة "نحن أرسلنا الطلب للاحتلال لكن لم يأتِ الرد حتى اللحظة".
غضب عارم
وبحسب التقرير الشهري للمركز الفلسطيني لحقوق الانسان فإن سلطات الاحتلال سمحت خلال شهري يونيو ويوليو بزيادة أعداد الفلسطينيين المسموح لهم بالتنقل عبر معبر بيت حانون "ايريز" خلال فترة التقرير مقارنةً بحالة الحظر الشامل قبل عدة أشهر، غير أن الفئات المسموح لها باجتياز المعبر ما زالت محدده.
وقد سُمح على مدار الشهرين لفئات محددة باجتياز المعبر، هي: 2،946 مريضاً يرافقهم 2،840 شخصاً من ذويهم، 20،834 تاجرا ،6،115 شخصاً لحاجات خاصة، 1،573 من الموظفين العاملين في المنظمات الإنسانية الدولية، 296 من المسافرين عبر جسر اللنبي، 416 شخصاً من ذوي المعتقلين لزيارة أبنائهم في السجون (الإسرائيلية) و3،081 شخصاً (من كبار السن) للصلاة في المسجد الأقصى، وذلك في ظل إجراءات أمنية معقدة.
الائتلاف من اجل النزاهة والمساءلة "امان" كان قد نظم جلسة استماع للسراج بعد وصول العديد من الشكاوى لهم بحضور عدد كبير من ممثلي مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الاعلامية وممثلين عن التحالف المدني للرقابة على اعادة الاعمار، والتي تناولت واقع النزاهة والشفافية والمساءلة في أداء هيئة الشؤون المدنية غزة للوقوف على الفجوات والتحديات التي تواجهها في عملها، والخروج بتوصيات تطبيقية عملية لمعالجة هذه التحديات بهدف المساهمة في تعزيز مبادئ الإدارة السليمة للشأن العام وتقديم الخدمات للجمهور.
وقال بكر التركماني من مؤسسة امان ان الشئون المدنية استجابت لطلبهم بنشر المعايير الخاصة بمنح التصاريح للفئات المختلفة في خطوة وصفها بالمهمة والتي من شأنها التسهيل على المواطنين وطالبي الخدمة، كما أنها تساهم في تعزيز مبدأ الشفافية من خلال نشر المعلومات وجعلها علنية وفي متناول الجميع.
واكد التركماني انه لا يوجد عدد واضح للشكاوى التي وصلت مؤسسته التي تعني بمكافحة الفساد لكنه أشار إلى وجود غضب عارم في اوساط المواطنين وهو ما دفعهم لعقد الجلسة.
ولفت إلى أن الوزارة استجابت لطلب نشر المعايير وهو ما يعزز مبدأ النزاهة، مؤكدا انه يجب مراقبة عمل الهيئة للتأكد من تطبيق المعايير.
نشر الهيئة للمعايير والشروط التي من خلالها تتم آلية إصدار التصاريح لم يكن كافياً ليطمئن المواطنين، خاصة أن مدى تطبيق والتزام الهيئة بتلك المعايير يحتاج لوقت ولمراقبة من جهات معينة، وهذا يعني العودة لذات الخلل وهو غياب مرجعية واضحة واليات الرقابة على عملها.