ما زالت الأوساط السياسيّة الفلسطينيّة منشغلة منذ أواخر تمّوز/يوليو بمسألة خلافة الرّئيس الفلسطينيّ محمود عبّاس، وما يتعلّق بها من مخاوف فلسطينية وتقديرات مقلقة حول مستقبل السلطة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة بعد غيابه، لجهة إفراغ المضمون السياسيّ للسلطة وتحوّلها تدريجيّاً إلى مجالس بلديّة موسّعة، تؤدّي أدواراً خدماتيّة، كما كانت عليه الحال قبل إنشائها في عام 1993
الخطورة في هذا السيناريو المتوقع للسلطة الفلسطينية بتحولها إلى مجلس بلدي، أنه يمنع الفلسطينيين من تحقيق تطلعهم بأن تكون هذه السلطة مقدمة لإقامة الدولة، بل إن هذا السيناريو يعود بهم تدريجياً إلى سيطرة الاحتلال الإسرائيلي عليهم، وضياع أكثر من 20 عاماً عليهم دون جدوى منذ إنشاء السلطة الفلسطينية.
"إسرائيل" من جهتها تسعى لجعل الفلسطينيّين يعيشون في كانتونات ومعازل من دون مقوّمات سياسيّة، وأنّ السلطة الفلسطينيّة باتت مجرّد اسم، وهي في حقيقة الأمر لم تعد تتعدّى بلديّة موسّعة، وهناك خطّة إسرائيليّة لإضعاف السلطة الفلسطينيّة، بحيث تتعامل إسرائيل في المرحلة المقبلة مع البلديّات وأطراف فلسطينيّة داخل الضفّة الغربيّة بشكل مباشر، ممّا يضعف السلطة، ويفقدها كثيراً من شرعيّتها.
وقد يكون هناك استعداد لدى بعض الفلسطينيّين للتساوق مع السياسة الإسرائيليّة بتحويل السلطة الفلسطينيّة إلى كيان خدماتيّ موسّع من دون مضمون سياسيّ، خاصة من أصحاب رؤوس الأموال ورجال الأعمال الفلسطينيين، الذين قد تلتقي مصالحهم الاقتصادية مع مصالح إسرائيل السياسية، دون أن يسمي أحداً منهم، في ضوء الضعف المتواصل الّذي يحيط بها، مع أنّ خطّة إسرائيل قد لا تصل إلى إنهاء السلطة الفلسطينيّة كليّاً، بل الإبقاء عليها ضعيفة هزيلة.
لقد بدأت إسرائيل عمليّاً بتطبيق سياسة تهميش السلطة في الضفّة وتجاوزها، بالتّعامل المباشر مع الفلسطينيّين، حين منحت 300 ألف منهم في منتصف تمّوز/يوليو تصاريح لزيارة مدن يافا وتلّ أبيب، خطورة الخطوة الإسرائيليّة أنّها منحت التّصاريح للفلسطينيّين مباشرة عبر مكاتب الإدارة المدنيّة الإسرائيليّة المنتشرة في الضفّة، من دون أيّ دور للسلطة الفلسطينيّة، وتصرّفت إسرائيل كما لو أنّها مسئولة عن فلسطينيّي الضفةّ، وليس لهم سلطة تمثّلهم، وهذا تجاوز مهمّ وخطير للسلطة من جهة، ومن جهة أخرى تضخيم لدور الإدارة المدنيّة التّابعة للجيش الإسرائيليّ، كسلطة فعليّة على الفلسطينيّين.
مع العلم أن إسرائيل قد لا تعود لإعادة احتلال كامل الضفّة في مرحلة ما بعد عبّاس، بل ربّما تلجأ إلى ضمّ بعض مناطقها وتنصيب قيادات محليّة بدلاً من حكومة السلطة الفلسطينيّة لتؤدّي مهاماً إداريّة خدماتيّة على ما سيتبقّى من الأرض الفلسطينيّة، وهناك خشية فلسطينية من أن تتحوّل كل مدينة وقرية فلسطينيّة خارج نطاق السيطرة المباشرة للسلطة الفلسطينيّة إلى منطقة يسيطر عليها الجيش الإسرائيليّ، وإسرائيل ستعزّز وضعاً كهذا.
ليست المرّة الأولى الّتي تتعامل فيها إسرائيل مع الفلسطينيّين مباشرة من دون وجود سلطة وسيطة بينهما. لقد أسّست بين عامي 1976-1982 روابط القرى، لتكون بديلة عن منظّمة التّحرير الفلسطينيّة، عبر تكليف المجالس البلديّة والمحافظات في الضفّة الغربيّة إدارة شؤون الفلسطينيّين التعليميّة والصحيّة والزراعيّة.وفي هذا الإطار، كما أن الشعب الفلسطينيّ بات يدرك أنّ إسرائيل الّتي صنعت الانقسام بين الفلسطينيّين، تسعى لإعادة روابط القرى في كانتونات منعزلة في الضفّة على حساب السلطة في مرحلة ما بعد عبّاس.
وتزامنت المخاوف الفلسطينيّة من تهميش السلطة مع تحذيرات إسرائيل من اضطرارها إلى إدارة أوضاع الضفّة بعد غياب عبّاس، ولذلك فإنّ الجنرال يوآف مردخاي، منسّق شؤون الأراضي الفلسطينيّة في وزارة الدفاع الإسرائيليّة، قد يجد نفسه مسئولا مباشراً عن إدارة شؤون الضفّة الغربيّة.
إسرائيل عبر بعض ضبّاط أجهزتها الأمنيّة تتواصل مع مسئولين فلسطينيّين مباشرة، من رؤساء بلديّات ومحافظين للتباحث في قضايا خدماتيّة وتنسيقيّة من دون الرجوع إلى الوزارات الفلسطينيّة المختصّة، وتجاهلها، وقد سجّلت أجهزة الأمن الفلسطينيّة تجاوباً من بعض المسئولين الفلسطينيّين مع الدعوات الإسرائيليّة، ورفضاً من بعضهم، ممّا شجّع الأجهزة الأمنيّة الإسرائيليّة، وتحديداً الإدارة المدنيّة، على توسيع رقعة التّواصل مع مسئولين فلسطينيّين آخرين، وهو ما ينذر ببوادر لتفكيك هيكلة السلطة الفلسطينيّة، والتّعامل مع كلّ مسؤول فلسطينيّ على حدة، بعيداً عن المنظومة الإداريّة الحاكمة في الضفّة الغربيّة.
أخيراً، كثيرة هي السيناريوهات المتوقّعة لمستقبل السلطة الفلسطينيّة في اليوم التّالي لغياب عبّاس، وتطرح على صنّاع القرار الفلسطينيّ أسئلة صعبة، مثل: هل إنّ السلطة الّتي تأسّست عام 1994 لتكون مرحلة انتقاليّة لإقامة الدولة الوطنيّة الفلسطينيّة انتهى بها المطاف لتكون تحت سلطة الاحتلال الإسرائيليّ، أم هي سلطة يديرها الاحتلال الإسرائيليّ ذاته، أو ربّما تتحوّل في قادم الأيّام إلى كيان أمنيّ تابع للجيش الإسرائيليّ وأجهزته الأمنيّة، بعد إفراغها من أيّ مضمون سياسيّ؟