بشرة سمراء تمتد جذورها من كرتيا وحمامة وبرير لتصل خانيونس جنوب قطاع غزة وذات الابتسامة يتقاسمها أربعتهم كما تقاسموا بينهم حلم "لما الحيطان تحكي" لتولد على أيديهم أكبر جدارية جرافيتي في فلسطين لطفلة تحتجزها قضبان الاحتلال كما مدينتها المحاصرة.
أصغرهم سنًا بلال خالد_ 24 عامًا_ صاحب الفكرة حيث رسم "الاسكتشات" الأولية واجتمع مع الفنان ماجد مقداد ومحمد زكي أبو حسنين ومحمد زكريا أبو حسنين لتحاول ريشتهم أن تواكب أساليب التجديد في التعبير وايصال رسائل عبر الفن لترتقي بالهواء الطلق بعيدًا عن ضجيج القاع.
أعلى ارتفاع
أيها المار من أمام برج الظافر(9) وسط مدينة غزة كن على يقين بأنك ستقف مطولًا وأنت مرفوع الرأس منتصب القامة أمام رسم جرافيتي محترف لترى الجمال والجلال في وجه فلسطين التي اختزلها الفنانون في فتاة متشحة بالكوفية كجزء من مشروع "لما الحيطان تحكي" الذي ينظمه الاتحاد الأوروبي بالشراكة مع شبكة الاتحاد الأوروبي للمراكز الثقافية.
لم تخف قبعة رأسه السوداء أفقه الواسع ونظرته الفنية رغم حداثة سنه، فوقع الاختيار على بلال ورفقائه لتنفيذ جدارية " قررنا تسجيل أكبر جدارية من خلال هذا المشروع بارتفاع 20 متر وعرض 15 متر بخلاف الارتفاعات البسيطة المتعاهد عليه".
الرسام الجرافيتي بلال استطاع وزملاؤه أن يوصل رسالته عبر الجدران للخصوصية التي تميزها عن غيرها وكونها أكبرهم واستغرقت جهد مضاعف في تجهيزها بحسب ماجد.
طفلة صغيرة تمثل غزة والضفة وكل جزء من فلسطين لونها لم يتعدى الرمادي حيث امتزجت بالأبيض والأسود و"لأن وطننا ما بعيش بالألوان لأنه محاصر ويتعرض بشكل دائم للانتهاكات من خلال الحروب اخترنا الألوان الرمادية" كما يقول الفنان ماجد.
ورغم سوداوية المشهد التي تعيش فيه طفلة الجدارية التي انسابت ريشة بلال وماجد والمحمدين لرسمها تحمل في عينيها لمعة أمل وحلم بأن تعيش في يوم من الأيام بألوان الحرية والأمل كما لفت ماجد خلال معايشة "الرسالة نت" لتفاصيل ولادة الجدارية.
انهماك واعجاب
جسور خشبية وقضبان حديدية انهمك الأربعة على تسلقها لساعات عمل تنتهي مع غروب شمس كل يوم قد يضطر أحدهم للنزول والصعود الى أعلى في الدقيقة أكثر من مرة لتقييم الشكل العام وأدق التفاصيل كرسم عيون الطفلة التي حرص بلال وماجد على مراعاتها رغم الإرهاق الجسدي أثناء الصعود والنزول.
في حين أن ألوان خلفية الجدارية والتي فرغ كل من محمد زكي ومحمد زكريا ابداعهما على شكل مثلثات تتلاقى مع بعض وتدرجات بها ألوان مفرحة وهي كناية عن الأمل كما بينا خلال مقابلتهما فترة الاستراحة.
حالة الانهماك في العمل باتت جلية على ملابس الفنانين الأربعة والتي تلونت لتشكل لوحة مجهولة المعالم على عكس رسمة الطفلة التي أثارت اعجاب المارة ورواد مواقع التواصل الاجتماعي بحسب محمد زكي.
"موقع الجدارية ملفت للانتباه لذلك تم اختياره " يقول ماجد ويهز رأسه بلال ويبتسم المحمدين، وعند سؤالنا عن احتمالية خوف أحدهم من المرتفعات ابتسم الجميع وأجاب بالإنابة ماجد:" شبه متعودين (...) رهبة انتهت بأول ما طلعنا".
نصوص عربية تسكن ثنايا اللوحة أثارت فضولنا للسؤال وهنا أكد ماجد في العقد الثالث من العمر بأنها تضفي جمالية معينة للتصميم "عدا عن كوننا نعتز باللغة العربية"، تلك الحروف كانت كمن يتأمل خيرًا بالدول العربية وتستفزه لدعم ونصرة الفلسطيني المظلوم أينما حطت رحاله.
نصف ساعة من الجلوس أرضًا أو كما أسماها بلال في "الصالون" الذي تتمركز فيه أربع "عجلات" يستريح عليها الفنانون ويستقبلون الضيوف ووسائل الاعلام عندها، "ولكن هل من آلية لحماية هذا الجهد الذي استغرق انجازه قرابة العشرة أيام؟" تساءلنا فأجاب ماجد:" بشكل عام للوحات الجدارية في شوارع غزة عرضة للمحو أو الخربشات عليها وكل يوم يسكننا هاجس أن نجدها قد شوهت فيقاطعه بلال مازحًا:" أو ممكن تقلب الجدارية اعلان لمكتب تاكسيات".
اللوحات تعبر عن مظهر حضاري وتعطي جمال لغزة ولشوارعها لاسيما وأنها تحمل رسائل للمجتمع والعالم الا أن قلة الوعي والثقافة بأهميتها قد تتلفها بلمح البصر كما نبه رسام الجرافيتي وزملاؤه.
المحمدين زكي وأبو زكريا أوضحا بأن الكوفية التي توشحت بها الطفلة رمز للهوية الفلسطينية وعنوان للصمود.
لم تغب روح الدعابة والحديث المثمر من طاقات شبابية تحلم بالتفاعل مع أحلامها الذي لم تلمسه من وزارة الثقافة أو أي جهة رسمية في حين أن جدارية كـ "طفولة محاصرة" قد تمثل لغة سهلة توصل رسالة القهر الذي يعيشه الفلسطيني وتؤثر بحجم التفاعل مع القضية بشكل أقوى من أي رسائل سياسية أو دبلوماسية باهتة.
انتهى الفنانون الأربعة واكتمل الحلم على الجدران ورغم القضبان التي لا تزال تحاصر الطفلة الفلسطينية الا أنها كانت تعطي كل من زارها نظرات تحدي وإرادة وكأنها تردد "يمينًا بعد هذا اليوم لن أبكي".