قائمة الموقع

"الحلبي" تستحضر ذكريات الإبعاد وجلسات المخابرات

2015-12-07T16:02:13+02:00
فاطمة الحلبي أثناء حوار الرسالة معها
الرسالة نت - محمد أبو زايدة

يبدو أنّ حكاية فاطمة الحلبي مع السلاح لم تتوقف بعد دخولها سجن الرملة، ولم تهتز عزيمتها حينما أخبرها المحقق: "سنعذّبك حتى نهدّ قواكِ، ثم نبعدك إلى دولة صديقة لنا"، مضيفًا أثناء اعتقالها لدى الاحتلال الإسرائيلي: "لا تحلمي أن نعيدك لغزة ما دامت (إسرائيل) في الوجود".

تولّت "الحلبي" قيادة الأسيرات من قوات التحرير داخل سجن "الرملة"، وكانت لها كلمتها أمام غطرسة الاحتلال، ما أدّى بها إلى جولاتٍ مستمرة داخل "المسلخ" الذي شُبحت به، وفقدت بداخله "بصرها، وكليتها، والقدرة على السير"، وأصابها كسرٌ في الرقبة نتيجة إفشالها لمحاولات الاحتلال بـ"صمّها، أو عميها"، إضافة إلى تقيؤها الدم بشكلٍ مستمر.

"الرسالة" وفي اخر حلقاتها من شهادة الحلبي على العصر طرقت باب ذكرياتها ومغامرات ابعادها للأردن وهروبها الى سوريا واتصال الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بها للمكوث في بغداد ومن ثم انتقالها للجزائر الى ان عادت لأرض الوطن غزة.

"تيقن الاحتلال خلال اعتقالي أنّه حصل على مُراده في كسر قوّتي" تقول الحلبي، وتكمل حديث الماضي لـ"الرسالة": "بعد سجني لـ6 سنوات ونصف بتهمة إنشاء تنظيم عسكري معاد لـ(إسرائيل)، قرروا إبعادي إلى الأردن".

الإبعاد

جاء القرار من المحكمة الإسرائيلية بإبعاد فاطمة إلى الأردن، مع إبقاء الحكم عليها لـ(20 عامًا) حال جرى سجنها مرة أخرى لأي تهمةٍ تسجن عليها، وكانت رحلة الحرية ملآى بالمطبّات التي توقفنا عند واحدةٍ منها.

في فجرِ يوم الاثنين قبل ما يزيد عن أربعين عامًا، وصل جيبٌ عسكري إلى سجن الرملة، وقرأ اسم "فاطمة الحلبي" لتكون مُبعدة إلى الأردن الشقيق.

"خرجنا في البرد القارس من سجن الرملة إلى المسكوبية في القدس" تصف رحلة العذاب التي عاشت تفاصيلها، وتوضح أنّ قوات من الاحتلال وعناصر من الصليب الأحمر كانوا يرافقونها في رحلتها.

على الحدود الشرقية من فلسطين، يقف عسكري الارتباط الأردني ينظر للقادمين، حتّى توقّف الجيب ومن فيه، وخرج منه جُنديٌ يربط في يده اليمنى "كلبشات" متصلة بسواعد فاطمة، وباليسرى ملفٌ مكتوبٌ بصياغة إسرائيلية حول نشاطات "الحلبي".

تسلّم العسكر "فاطمة" مع آذان العشاء؛ قائلين لها "أهلًا بك في الأردن الشقيق"، وعاد الجنود الإسرائيليون إلى مراكزهم في فلسطين.

تضيف الحلبي: "صعدنا في جيبٍ أردني، وساروا بنا في سردابٍ تحت الأرض، حتى وصلنا إلى زنزانة أردنية". تصمت هنيهة من الزمن، ثم تشير إلى أنّ أوّل مراسم البروتوكول كانت من ضابطٍ رحّب بها، وقال لها: "نريد الحديث قليلًا يا فاطمة".

لم ترق كلماتُ ضابط الاستخبارات الأردنية لفاطمة، فنظرت إليه بغضبٍ وحملقت بعينيها، وقالت له: "أربعة أيامٍ لم أتناول الطعام طيلة رحلة ابعادي، ولم أنم لدقيقة واحدة، وأنت تقول لي نريد الحديث.. هذه مسخرة".

صُدم الضابط من لهجة فاطمة، ودار حوارٌ بين الطرفين: قالت له: "افتح دُرج المكتب وأخرج الملف الذي استلمته من العسكري الإسرائيلي، ستجد بداخله جميع المعلومات عنّي"، رد عليها: "أرغب بالحديث معكِ بعيدًا عن الملف"، صرخت في وجهه: "ما زلت ضيفة، فأكرم ضيفك ثم إن أذن لك بالحديث؛ تتحدث"، فحملق بعينيه مستغربًا وقال: "لم أعتد على هذه اللهجة من أحد".

استمر حوار الطرفين حينما ردت فاطمة عليه: "ستعتاد على هذه اللهجة"، ثم طلبت منه أن يحضر لها سريرًا ومدفأة ويسلّمها مفتاح الزنزانة لتخلد إلى النوم، وبعد استيقاظها يكملان الحديث، فرد عليها: "وإن عارضت"، أجابته: "سأبقى كما أنا، ونتحدى بعضنا"، فعبّر عن استغرابه، وقال: "أخبرتني إسرائيل أنّك قوية، ولكن لم أتوقع بهذه الدرجة".

"تنوّعت أعمالي في لبنان، ما بين الخيرية نهارًا في مخيمات اللجوء، ومقاومة الاحتلال ليلًا، حتى فقدت نجلي البكر "بهاء"، واشتد الخناق على العائلة"

نفذ الضابط الأردني طلب "فاطمة" على مضد، وفي الصباح دعاها للحديث برفقة فنجان قهوة عربية، لكنّها رفضت، وقالت له: اتصل على أحد أقاربي لطمأنتهم على صحتي".

مخابرات الأردن

حددت المخابرات الأردنية دوامًا رسميًا لفاطمة، داخل مقرّهم، تقول: "طلبوا مني الحضور يوميًا من الثامنة صباحًا حتى الرابعة مساءً، لمدة أربعة شهورٍ متواصلة".

تمثل حديث المخابرات عن حياة فاطمة، وما يدور على الساحة الفلسطينية من أحداث وأخذِ تعقيبها عليها، ثم عرضوا عليها أن تعمل لصالحهم مقابل "شقّة، وسيارة، ورتبة رائد، وراتب مضاعف، وحراسات"، لكنّها رفضت، وطالبتهم بأن يتركوها وشأنها فقط.

كان ردّ ضابط المخابرات فور رفضها إخراجه لكشفٍ من أسماء القيادات الفلسطينية، ثم ضربه على مكتبه، وقال لها: "جميعهم جلسوا نفس جلستك، وكسرنا رؤوسهم بالمال، إلّا أنت، لم نستطع أخذ حقٍ منك ولا باطل".

أصاب فاطمة في إحدى الليالي حالة انهيار عصبي، ونقلت على إثرها إلى مستشفى "جيش التحرير الفلسطيني" بالأردن، ومكثت بداخله ما يقرب عامين ونصف.

تتابع: "إن خرجت من باب المستشفى أجد ضباطًا أردنيين يعملون كسائقين، ولم تصدف مرة أن صعدت مع عامل أجرة حقيقي.. كانوا يراقبونني عن كثب".

وضمن مسلسل المخابرات الأردنية، مثّل عليها أحد الضباط دور عاشقٍ، ثم طلب منها أن تفجّر مكانًا وسط البلاد، لكنّها وبّخته وتركته يعيش قصة غرامه حتى تنفذ خطة هروبها.

الهروب إلى سوريا

وبعدما اشتد الخناق عليها من جميع المحاور، ومكوثها في الأردن لعامين ونصف، جهّزت "فاطمة" خطة هروبٍ من الأردن إلى سوريا، وبدأت بتنفيذها مساء أحد الأيّام، تقول: "نظرت من نافذة البيت، فوجدت ضباطًا أردنيين يريدون اقتحامه بعدما اكتشفوا ارتباطي بالمقاومة الفلسطينية أثناء تواجدي في بلادهم".

تسلّحت "فاطمة" بمسدسٍ اشترته فور تنسمها الحرية، ومكّنت نفسها بالملابس الثقيلة، ثم اتصلت على الضابط الممثل لدور العاشق، وطلبت منه انتظارها في أحد الأماكن، وقفزت من نافذة البيت إلى أخرى.

تقول: "خرجت من منزلي إلى بيت الجيران، ثم توالت عملية الهروب من مكانٍ لآخر بعيدًا عن العيون، وبعدما وصلت إلى الشارع العام؛ أوقفت سيارة أجرة أقلتني إلى مدينة اربد الأردنية على الحدود السورية".

التقت فاطمة بشخص مقرب لجيش التحرير الفلسطيني، واصطحبها كـ"دليل طرق" إلى الحدود السورية؛ سيرًا على الأقدام.

"لم أجد الحق إلّا في نهج حماس، وهم من بقوا متمسكين بخيار البندقية، وقناعتهم لم تتغير بأنّ ما أخذ بالقوة لا يسترد إلّا بالقوة"

وصلت "الحلبي" إلى الحدود الأردنية السورية، وكانت مليئة بالضباط المدججين بالسلاح، تصف لنا "فاطمة" المشهد: "في غضون ثوان معدودة؛ قطعت السلك الحدودي بين البلدين، وتمكنّت من التخفّي بين أشجار الذرة، حتى وصلت إلى سوريا".

لم تكن حفاوة الاستقبال "لفاطمة" في سوريا كما وعدها أحد عناصر تنظيم الجبهة الشعبية، لا سيما أنّها عملت تحت اسمهم طيلة تواجدها في الأردن.

العراق ترحب بك

وفي سوريا عمدت "فاطمة" على استرجاع قوّتها التي سلبتها منها المخابرات الأردنية، ومن قبلها الاحتلال الإسرائيلي، فاستعادت نشاطها مع قيادة الجبهة الشعبية، وعملت في المخيمات الفلسطينية.

وطيلة أربع سنواتٍ في سوريا، كان همّها أن تضرب الاحتلال الإسرائيلي بأماكن موجعة لتنتقم من "بصرها وصحتها التي سلبها إياها"، وعادت إليها تدريجيًا بعد العلاج.

وفي أحد الأيّام؛ وصلها اتصال من الرئيس العراقي صدام حسين، أخبرها أنّ "العراق يرحب بك، وببندقيتك، فإن جئتِ إليه فرشنا لكِ الأرض وردًا وياسمينًا".

تتابع حديثها متبسمة: " طلب مني أن أستقر في تكريت مع ابني بهاء الذي أنجبته في سوريا، لكنني رفضت لأبقى في أقرب نقطة تماس مع الاحتلال الإسرائيلي".

اشتدّت الأوضاع سوءًا في سوريا بعدما واجهت "فاطمة" الاحتلال في الخطوط الأولى، فسافرت إلى لبنان، وأكملت طريقها حتى أصيبت في ظهرها برصاصة "إسرائيلية"، ما زالت آثارها موجودة حتى جلوسنا برفقتها.

تنوّعت أعمال الحلبي في لبنان، ما بين الأعمال الخيرية نهارًا في مخيمات اللجوء، ومقاومة الاحتلال ليلًا، حتى فقدت نجلها البكر "بهاء"، واشتد الخناق عليها وعلى عائلتها.

تقول: "سافرت مجددًا إلى الجزائر، وتعرضت لأشد أنواع التحقيقات من المخابرات، وبقيت فيها حتى عام (1995)، ثم أجريت تنسيقًا باسم إحدى شقيقاتي، واستطعت العودة إلى غزة".

وفي عودة الحلبي إلى غزة، تكون قد كسرت مقولة ضابط المخابرات الإسرائيلي لها: "لا تحلمي أن نعيدك لغزة ما دامت إسرائيل في الوجود".

وفور وصول "فاطمة" إلى أرض الوطن، أرسلت مخابرات السلطة الفلسطينية رجالها لتقديم إغراءاتٍ لانضمامها لهم، لكنّها رفضت.

تتابع حديثها: "بعدما توالت مطالبهم بالانضمام، قدّم الراحل ياسر عرفات مقترحًا يشابه عرض الأردن بتقديم جميع التسهيلات، والمال، والرتب العسكرية، مقابل موافقتي، لكنني أصرّيت على الرفض لأسبابٍ خاصة".

مرّت أشهرٌ على وجود "فاطمة" في غزة، حتى أتيحت لها فرصة اللقاء مع الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة حماس، فتمّت عقبها البيعة على الانضمام إلى جماعة الاخوان المسلمين، تعقّب على ذلك: "لم أجد الحق إلّا في نهجهم، وهم من بقوا متمسكين بخيار البندقية، وقناعتهم لم تتغير بأنّ ما أخذ بالقوة لا يسترد إلّا بالقوة".

إلى هنا تنتهي حلقاتنا مع الحلبي، لكنّ قصة نضالها ما زالت مستمرة، وفي آخر جملة لـ"الرسالة" تلخّص فيها تجربة نضالها، تقول: "مستمرة على نهج الإسلام، وكفاح البندقية، ولو خيّرت للنضال والتجربة مرة أخرى، لاخترت دين الحق، وقاتلت في سبيل رفع كلمة الله".

 

** لمتابعة الجزء الأول من حوار "الرسالة" مع فاطمة الحلبي اضغط هنا

** لمتابعة الجزء الثاني من حوار "الرسالة" مع فاطمة الحلبي اضغط هنا

 

اخبار ذات صلة