قائد الطوفان قائد الطوفان

في ضيافة

القيادي يوسف.. قلم لا ينضب وهمّ القضية على الأكتاف

الدكتور أحمد يوسف القيادي في حركة المقاومة الإسلامية
الدكتور أحمد يوسف القيادي في حركة المقاومة الإسلامية

الرسالة نت-محمد أبو زايدة

صوت ارتطام المطر على سقف "الزينكو" المتهالك، الذي كان يأوي عائلته؛ لا يزال عالقًا في أذنه، ومشهد هروبه في حرب عام (1956) يمتثل أمامه وقت أن كان بعمر الستِ سنوات وهو لا يرتدي من الثياب شيئا سوى "شبشب" ممزّق تجرّه قدماه.
ويبتسم أثناء حديثه عن بطاقات التموين التي بمقتضاها يستلم طعامه من "وكالة الغوث" مكوّن من بضعة حبّات أرزٍ؛ يلتهمها وكأنّه على أبواب الجنّة، ثم يستند مستضيفًا "الرسالة نت" وقد بدا عليه الكبر، قائلًا: "أنا ابن مخيم الشابورة.. أنا أحمد يوسف".
من زقاق مخيمات رفح جنوب قطاع غزة أطلقت نساء الحارة الزغاريد فجر السابع والعشرين من ديسمبر (1950) مستبشرين بقدوم أحمد، لا سيّما أنّه البكر لعائلته، وكبُر عوده على "البساطة"، ونمى عقله في مدارس "الوكالة"، وكانت انطلاقته منذ سماعه رقم (77%) الذي حمل نتيجة تخرّجه من الثانوية العامة، وكانت أولى المحطات التي من خلالها وصل إلى القيادة في حركة حماس، ورئيسًا لمؤسسة بيت الحكمة.

سفر بالمهر

"فور تخرّجي من الثانوية العامة قررت السفر إلى تركيا، لكنّ العقبة كانت الافتقار إلى المال"، يقول يوسف، وما لم يكن يتوقعه أن تدفع له شقيقته مهرها -ألف دولار-ليكمل حلمه، ويصعد سلّم النجاح، فوصل إلى إسطنبول، ومكث ستة أشهر تعلم خلالها اللغة، ومع وصوله إلى مقاعد الدراسة الجامعية أخبرته الإدارة: "أنتم مكتوب على هويتكم الشخصية -شخص غير معروف-، ولذا عليكم اختيار أي تخصص دون الطب أو الهندسة".
حُلم أحمد ووالده بدأ يتلاشى في تركيا، فعاد الطالب أدراجه إلى غزة، وقرر إعادة الثانوية العامة من جديد، وفتحت له جامعة الأزهر في القاهرة أبوابها، وتخرّج بعد خمس سنواتٍ يحمل شهادة الهندسة الميكانيكية.

"تمكنت من السفر للمرة الأولى بعدما وهبتني شقيقتي مهر زفافها"   

أسند ظهره على كنبته التي عكست أناقة ذوقه، وأعاد عجلة الزمان للوراء، إلى أن كان بالـ(15) من عمره، ولم يعرف عن الصلاة سوى أنّها "عبادة لكبار السن قبل موتهم"، حتّى هداه الله بالتقرّب من جاره الذي كان نديّ الصوت، مرتلًا للقرآن، وملتزمًا بحلقات الذكر، فأحبّه، وانطبقت مقولة "الصاحب ساحب"، والتزم أحمد بالصلاة.
يقول يوسف: "نتيجة حُبّي للصلاة، والتزامي بها، استطعت التعرف على الشيخ أحمد ياسين -مؤسس حماس، وكان أوّل لقاء يجمعني به في بدايات عام (1968)، وشدّني أسلوبه، وعزيمته التي لم تستسلم لكرسيه المتحرك، وجذبني فكر الجماعة، وبدأت في عزلة شعورية عن الجميع، أقرأ في كتب سيد قطب، ونهج الاخوان المسلمين".
وبعدما تشرّب أحمد النهج في غضون أشهرٍ معدودات برفقة آخرين؛ أعطى بيعته هو وفتحي الشقاقي -مؤسس حركة الجهاد الإسلامي لاحقًا-للجماعة على يد أحمد ياسين، ثم تمكّن من السفر إلى القاهرة، والتقى بمن كان يقرأ كتبهم أمثال: "زينب الغزالي، ومصطفى مشهور، وعمر التلمساني"، وتعمّق بهم أثناء اللقاءات المتكررة التي كانت تعقد غالبًا في المساجد، فأدرك أنّ "هذه الرسالة تستحق أن يعيش الإنسان لأجلها".

ومع كلّ إجازة دراسية؛ يعود أحمد إلى بلاده، ويلتقي بشيخه "ياسين"، وينقل تجارب إخوان مصر، ما ساهم بتعزيز العمل التطوعي في غزة، وبعد حصوله على الشهادة الجامعية، قرر السفر إلى الامارات للعمل في إحدى الشركات، ومكث عامين يتشرّب الخبرات، ويساهم في تطوير قدراته، حتّى حصل على منحة "ماجستير" في الولايات المتحدة الأمريكية.
"عزمت على السفر لأمريكا، وأكملت الماجستير في الهندسة الصناعية، والتقيت هنالك بكمالين شعث، وموسى أبو مرزوق، وإسماعيل أبو شنب"، يقول يوسف، ويشير إلى أنّه أنهى دراسته في غضون عامين، ولم يستطع اكمال الدكتوراه في ذات التخصص، "لأنّ المنحة توقفت خلال هذه المرحلة".
ولشدّة ولعِه بعالم الإعلام، ومع توفر فرصة لدراسته كماجستير، قرر أن يخوض التجربة، ويرى بنفسه أنّه أبدع، خاصة أنه عاشق للأدب والشعر، وخاض التجربة أثناء رئاسته تحرير احدى المجلات التابعة للجالية العربية في أمريكا.

عراقيل وإنجازات

شعورُ الإنجاز طغى على حياة أحمد، واتخذ قرار العودة إلى غزة، وبث تجربته فيها، وبعد وصوله لأرض الوطن عام (1987) طلبت إدارة الجامعة الإسلامية منه أن يؤسس لكلية الإعلام فيها، لكنّ الانتفاضة الفلسطينية الأولى عرقلت ذلك، بسبب إغلاق الاحتلال (الإسرائيلي) للجامعات، لأجلٍ غير مسمّى.

"بايعت الشيخ ياسين على الانضمام للإخوان نهاية ستينات القرن المنصرم"

يضيف: "قررت العودة إلى أمريكا وإكمال الدراسات العليا -الدكتوراه-، وتخصصت في التاريخ، لأنّ من أراد أن يعرف السياسة لا بد أن يعرف التاريخ جيدًا"، ويشير إلى أنّه في بدايات دراسته توقفت عنه المنحة لأسبابٍ سياسية، ثم حصل على أخرى في العلوم السياسية، وتخرّج "دكتورًا جامعيًا" بعد أربع سنواتٍ متواصلات.
ومنذ أن وصل يوسف إلى أمريكا، رآها عالمًا يختلف عن غيره في صناعة القرار، كون القرارات الدولية تصدر منها، فمع أوّل خطواته على أراضيها؛ كثّف جرعات دراسة اللغة الإنجليزية التي لم يكن قويًا آنذاك فيها، واستطاع أن يثبت نفسه وبقوّة، ومع مرور أشهرٍ على إقامته، أسس برفقة الذين وصلوا لتلك البلاد من قاطرة الإخوان؛ الاتحاد الإسلامي لفلسطين.

وفي أمريكا تعددت نشاطاته، برئاسة تحرير مجلة "درب الدعاة"، التي كان يعمل بها والشيخ طارق سويدان تحت سقفٍ واحد، ثم محررًا في مجلة "الأمل" التي خرجت باسم رابطة الشباب المسلم العربي، وجريدة الزيتونة، ومجلة إلى فلسطين، وتأسيس شبكة إعلامية تخدم القضية الفلسطينية بأسماءٍ مختلفة ومميزة، وبهذا يكون قد أتمّ عشر سنواتٍ في أتون التحليل السياسي والعمل الصحفي.
"مع الوقت تعلمت الكثير وخصوصًا في واشنطن، كونها مركز صناعة القرار في العالم، ولم أتوان في الذهاب إلى الكونغرس، وأتعلّم كيف يُدار الحوار والنقاش، واستطعت أن أقتبس منهم الجرأة، وتيقنت أنّه لا أحد فوق المساءلة"، يقول يوسف، ويشير إلى أنّه التقى في تلك البلاد مع معظم زعماء العالم، وبذلك يستطرد: "التقرّب من رؤساء وزعماء وإدارة الحديث معهم ارتجاليًا يُعلّمك كم هو فارغ المضمون إن لم يُمسك بورقة كتبها له غيره".

نشاطات

وفي لحظة صفاءٍ مع الذات، قررت مجموعة يوسف عمل نشاطاتٍ مكثفة تخدم القضية، فاتفق مع "موسى أبو مرزوق-عضو المكتب السياسي لحماس حاليًا-على أن يعملوا على (فلسطَنة الضمير الإسلامي، وتعريف الجميع بمحور القضية"، فتولّى ضيفنا مسؤولية الرابطة الإعلامية التي كانت صاحبة الدور في اختيار الشخصيات من العالم العربي والإسلامي واستضافتها في أمريكا.
ويتابع: "كنّا ننظم لقاءات أكاديمية وأنشطة ونستضيف أهم الشخصيات الأمريكية في الكونغرس، ونجري مناظرات، وندعو من له دورٌ بارز في وضع السياسات الأمريكية، ومن يعادي الإسلام، كما نستضيف مؤيديه، وناظرنا من استطعنا إليه سبيلًا، سواءً لتحسين صورة الإسلام، أو إبراز القضية الفلسطينية.
ومع ازدياد النشاط الذي لعبه على الساحة الأمريكية، قدّمت قناة الجزيرة الفضائية عرضًا لأحمد يوسف ليدير مكتبهم في بلد صناعة القرار، لا سيّما أنّه أثبت للجميع خلال الندوات والحوارات أنّه مُلِمٌ بخبايا الكونجرس، ونقاشاته المستمرة مع صناع القرار، إلّا أنّه رفض العرض، واختار لهم بديلًا عنه، وهو الصحفي "حافظ الميرازي".

"تعلّمت الجرأة من اختلاطي بالكونجرس الأمريكي وتيقنت أنّه لا أحد فوق المساءلة"

دروس الغربة

ارتشفنا برفقة ضيفنا قدح الشاي، واستطرد يوسف حديثه: "الغربة أعطتني فرصة لأرى العالم، وأحتك بصنّاع القرار، وأخرج من تفكير ابن المخيم إلى داخل العقول، وأتعلّم النقاش والحديث، فبدون أن تسافر وترتحل لن تستطيع أن تبني نفسك جيدًا، وستبقى بين جدرانٍ لا ترى أكثر من المكان الذي أنت على سطحه".
ومع انقضاء ثلاثين عامًا من الغربة، قضاها يوسف متنقلًا من أمريكا إلى معظم دول العالم، والتقى خلالها بزعماء العالم، قرر العودة إلى غزة عام (2006) عقب فوز حركة "حماس" بالانتخابات التشريعية، وتأكد أنّه يستطيع الاستقرار في بلاده لا سيّما أنّ (إسرائيل) كانت قد وضعته على لائحة المطلوبين.
وأثناء جلسةٍ برفقة إسماعيل هنية رئيس الحكومة الفلسطينية آنذاك وقيادات من حركة "حماس"، تمّ تكليف يوسف بأن يكون "مستشارًا سياسيًا له"، ووافق تحت قاعدةٍ يحملها: "لا أحبّ أن أكون بالصف الأوّل والصدارة، فالمرتبة الثانية تعطيك مساحة لترى الأمور أكثر وتزنها من عدّة محاور، ولو قدّمت لي إحدى الوزارات سأرفضها.. أن تعيش ناصحًا لإخوانك هو أفضل المراتب وأسماها"، وفق قوله.
وفترة عمله مستشارًا لهنية، تعرّض يوسف لمحاولات تصفية من عناصر فتح، أثناء الخلافات الداخلية عام (2007)، وجدران بيته الكائن في مدينة رفح، توثّق عشرات الرصاصات التي أطلقت عليه، ويعتبر تلك الحقبة "أكثر ما كان خلالها قريبًا من الموت"، لكنّ الله أعطاه العمر ليواصل الطريق.

علاقات زواج وحب

ومع استقراره في غزة؛ أنشأ ضيفنا مركز "بيت الحكمة" للدراسات، وسخره منبرًا لتبادل الأفكار مع جميع الأطياف والألوان، وعلى رأسها، الحوار مع الغرب، ما فتح مجالًا للمؤسسة لـ"تشبيك علاقاتٍ كبيرة مع المؤسسات الدولية".
ونتيجة للعلاقات التي نسجها يوسف، لا سيّما مع وفود كسر الحصار التي كان يستقبلها ويستضيفها؛ تقدّم أجانب لخطبة بناته، فزوّج الأولى لتركي، والأخرى لهندي، ويعقّب على ذلك بالقول: "ليس غريبًا على رجل عاش أكثر من ثلثي عمره مغتربًا، واختلط بالعالم، أن يوافق على زواج بناته ممن رضي دينه وخلقه وعلمه".
"وصار الحُلم هو الخيمة"، نهاية قصيدة كتبها يوسف، -له ما يزيد عن ثلاثين كتابًا وثلاثين رسالة، وآلاف المقالات الصحفية-، كتبها أثناء حنينه للوطن، ولمشاهد بلاده، وحذائه الممزق، ورائحة طين الصبا التي كانت تكسو ثيابه.
وللشعر حكاية مع يوسف، لا سيّما أبيات الحُب التي كان يرسلها وهو في غربته لزوجته أثناء زيارتها عائلتها في غزة، وتغنّى بالذكريات الوردية، إلّا أنّه يرفض نشر قصائده، ويعتبرها خاصة به، ولبيتٍ من قصيدة كتبها وعلّقها على جدران بيته حكاية.
وينهي القيادي يوسف لقاءنا بحديثه عن القصيدة التي غلّف بها مشاعره، وخطفت قلب زوجته، وبفضلها ازدانت حياته حبًا يقول: "كثُرت انشغالاتي وعملي، فشعرت زوجتي أنني انشغلت عنها، فعاتبتني ومن بعدها لم يتوقف قلبي عن الخفقان وأنا أخطّ قصيدة شعرية نسجتها لها، ثم وضعتها في بروازٍ لأحافظ عليها للأبد، وعلقتها على جدار البيت، وفي مطلعها قلت: وتسألني لما لا أقول حبيبتي، ثم أنهيتها معاتبًا بلطف: وهل يظمأ الساقي وبين أنامله ماء معين".

الزميل محمد أبو زايدة مع القيادي في حركة حماس أحمد يوسف
IMG_6988.JPG

البث المباشر