مقلاعٌ واحد وقميصٌ أحمر، يشبه لون دم والده القاني، وقمة الجبل الآن يمتلكها يحيى، بعد أن رحل أبوه مدافعًا عن رأس "صبيح" وعنه!
الأكتاف العريضة في هذا الوطن وُضعت لتزِف الشهداء، هذه المواكب تعرف أصحابها وحامليها، وهذا اليوم كانت الكتف ليحيى برهم!
هو ذاك الطفل الذي فقد أباه برصاصة قناص، بعد رفضه تشييد المحتل بؤرة استيطانية جديدة فوق أراضيه في منطقة جبل صبيح جنوب بلدته بيتا.
قفز يحيى في وجوه الجميع، أخبرتنا صورته بأنه أمسى رجلًا دون شارب، بعد أن أصر على المشاركة في تشييع شهيد جديد من البلدة قبل أن يشفى من يتمه بعد!
بين جنازتين!
صورةٌ واحدة، تركت أثرها هنا، وشهر واحدٌ بين جنازتين عسكريتين، الأولى للشهيد عيسى برهم وكيل محافظة نابلس شارك فيها يحيى لأن الشهيد أبوه، والثانية للشهيد الطفل أحمد بني شمسة شارك فيها يحيى ليوصل رسالته من على الأكتاف، فرسائل الأكتاف تزعج القناص!
بين جنازتين كبرت ملامح يحيى فجأة، تحول من طفل بعمر الورد، لطفلٍ بفعل الثوار، حتى أن عينيه باتتا تعرفان كيف تتحجر الدموع في المقل!
طريق الثورة تسلكها "بيتا"، ورأس عنيدة تحملها "بيتا"، ورسالة يدركها يحيى تؤكدها جنائز "بيتا"، وصورة خالدة ليحيى يرفع فيها إشارة النصر كما يفعل الأبطال منذ النكبة والنكسة والتهجير، كما نفعل نحن بعد كل رصاصة تقتلنا في فلسطين، وتبقي الثأر حيا فينا!
"لا تصالح على الدم حتى بدم!"، يا تُرى.. هل وصلت وصايا الشعراء ليحيى؟، هل حفظ قصيدة "لا تصالح" عن ظهر قلب؟، أم إنه احتفظ بمقلاع والده، وخبأه في سفح الجبل؟، يقول الصغار "لقد همس في أذن والده المسجى أمامه، همس متوعدًا بمحاكمة عادلة للجناة"!
نحيب الجبل!
اعتادت عينا يحيى على كبرياء الجبل، يدرك هذا الصغير أنه فقد أباه الحارس الأمين الذي رحل مبكرًا، لكنه لم يفقد الجبل!
جبل صبيح جنوب نابلس هو امتدادٌ لبلدته بيتا مع قريتي قبلان ويتما، يؤمن ابن الجبل بأن سكان المناطق المرتفعة ذات التضاريس الوعرة هم أناس يجيدون حراسة مواردهم وحمايتها، كما أنهم لا يثقون في الغرباء، ويتمتع سكان الجبال وفق الدراسات بمزيج خاص من الصفات، هذا المزيج اختزلته صورة اليتيم يحيى على الأكتاف!
يخترق سمعه صوت نحيب الجبل، يدرك الصغير أن الجبال العالية تئن ليلًا، حتى لا يشعر بانكسارها أحد، يجيد يحيى مواساة الجبل، كما يجيد كتم أسراره.. يحمل المقلاع صباحًا، ويعرف عن نفسه أمام شاشات التلفاز "أنا ابن الجبل، أنا ابن بيتا، أنا ابن الشهيد بابا حبيبي عيسى"!