قائمة الموقع

مقال: المقاومة والمساومة برنامجان لا يلتقيان، والمحاورة لعلهما يتعايشان (1-2)

2016-02-18T06:52:29+02:00
د. يونس الأسطل
د. يونس الأسطل

( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )

البقرة (216)

    هناك برنامجان في الساحة الفلسطينية والعربية، بينهما بَوْنٌ لا يلتقيان، فأما الأول فيؤمن أن المقاومة والجهاد في سبيل الله هو الحياة، وهو السبيل إلى التحرير، والقضاء على الاحتلال، وخاصة مع شرِّ الدوابِّ عند الله، وهم أحرص الناس على حياةٍ أيِّ حياة، أولئك الذين لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرىً محصنة، أو من وراء جُدُر، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، ولأنتم أشدُّ رهبةً في صدورهم من الله.

    وأما الثاني فقد انحاز إلى الاحتلال، وتعهَّد بأمنه، فهو يرى أن التعاون الأمني مع الاحتلال مقدَّسٌ، وأن واجبه أن يمنع مقاومة الاحتلال، ولو أدَّى إلى إفشال مائتي عمليةٍ في الأيام المائة الأُولى من عمر انتفاضة القدس؛ فهل يمكن لهذين المنهجين أن يتشاركا، أو أن يتعايشا في أضعف الإيمان؟

    للإجابة على هذا السؤال أقول: إنَّ آية المقال تتحدث عن برنامجين، الأول مكروه للنفس، وهو القتال الواجب في سبيل الله، وتخبرنا الآية أنه خيرٌ لنا، وكثيراً ما يكره الناس شيئاً وهو خير لهم؛ ذلك أن الله تبارك وتعالى قد يًخَبِّئُ الخير في الضُّرِّ، أو يُخْفي النعمة في النقمة، أو يُخرج المِنَحَ من المحن؛ لتعلموا أن الله على كلِّ شيءٍ قدير، وأن الله قد أحاط بكلِّ شيءٍ علماً، ولا عجب في ذلك، فإن الله جل جلاله يخرج الحيَّ من الميت، وينصركم وأنتم أذلة، وكم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئة كثيرة بإذن الله.

    وأما الثاني فمحبوبٌ للنفوس، ولكنه شرٌّ لكم، وهو التثاقل إلى الأرض، والقعود عن النفير؛ رضىً بالحياة الدنيا بديلاً عن الآخرة، أو خشية من العدو حين يرون أن لا طاقة لهم بجالوت وجنوده، وقد يكون ذلك من أثر الولاء للأعداء؛ فإن الذين في قلوبهم مرض؛ كالشهوة والشبهة، وهم المنافقون، يسارعون في ولاء اليهود والنصارى، يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة، والله أحقُّ أن يخشوه، وعسى أن يأتي بالفتح؛ كانتصارات غزة، أو أمرٍ من عنده؛ كانتفاضة الضفة، فيصبحوا على ما أَسَرُّوا في أنفسهم نادمين.

    وهنا يرد سؤال عن وجود الخيرية في القتال، وعن وجوه الشرِّ في التولي عنه، وبالأخص عندما يكون أصحاب البرنامج الثاني من المعوِّقين القائلين لإخوانهم: هَلُمَّ إلينا، أو المُثَبِّطين القائلين للفريق الأول: لا مُقامَ لكم فارجعوا، فهم ممن يقولون لمن يضربون في الأرض، أو كانوا غُزَّىً، ثم يدركهم الموت، أو ينالون الشهادة: لو كانوا عندنا ما ماتوا، وما قتلوا؛ ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم؟!.

    أما وجوه الخير فقد نصَّ القرآن الكريم على الكثير منها، وهو يسرد مقاصد القتال في سبيل الله، حتى لا تكون فتنةٌ، ويكون الدين كله لله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكنَّ الله ذو فضلٍ على العالمين، ولولا ذلك لَهُدِّمَتْ صوامع، وبِيَعٌ، وصلواتٌ، ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيراً، فإذا حُوربت الأديان تحوَّل الإنسان إلى حيوان، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، والنار مثوىً لهم، وعندئذٍ يَتَجَبَّرُ الطغيان، ويكثر الفساد في البلاد، كما فعلتْ عاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الأوتاد.

    ومن المواضع القرآنية التي نصَّت على طائفة من مقاصد القتال تلك الأربعة في سورة آل عمران، وتلك الستة في سورة التوبة:

    1- قال سبحانه: "لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَوْ يَكْبِتَهُمْ؛ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ . -لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ-، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ " آل عمران (127-128)

    2- وقال كذلك:

    "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ، وَيُخْزِهِمْ، وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ . وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " التوبة (14-15)

    وأرغب في أن أَشُدَّ انتباهكم إلى أن الموضعين يذكران أن من مقاصد القتال أن يتوب الله تبارك وتعالى على أعدائنا الحربيين، وأن هذا الأمر لله وحده، وليس لرسوله صلى الله عليه وسلم منه شيءٌ، حتى لو كان أولئك المتوبُ عليهم ممن هَمُّوا بقتله، أو شَجُّوا وجهه، وكسروا رباعيته، وجَحشوا ساقه، كما حصل يوم أُحُدٍ.

    ووجه ذلك أن بعض المعتدين علينا حين يرون صمودنا وبسالتنا، ثم انتصارنا ونحن أذلة، يتأكدون أن ديننا هو الدين الحقُّ، ولولا ذلك لما كان أغلى عندنا من نفوسنا ودمائنا، فيقذف الله الهدى في قلوبهم، ويهلك من هلك عن بينةٍ، ويحيى من حيَّ عن بينةٍ؛ ذلك أن الله عز وجل يريد بالقتال أن يُحِقَّ الحق بكلماته، ويقطع دابر الكافرين، ليحق الحقَّ ويبطل الباطل ولو كره المجرمون، وقد يكون سبب توبتهم أن الناس يميلون إلى الانضواء تحت لواء القوة المنتصرة، كما أن أعداءنا حين ييأسون من وَأَدِ ديننا يدخل أكثرهم فيه أفواجاً، ويصيرون إخوانكم في الدين.

    ولن يفوتني أن أشير إلى أن من مقاصد القتال أن تضع الحرب أوزارها بالإثخان في الطغاة البغاة؛ فإذا كسرت شوكتهم توقف القتال، وحلَّ الأمن والسلام، وقد يحدث هذا بإعداد ما استطعنا من قوة؛ حين ترهبون به عدوَّ الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، فيحصل الانتصار دون إيجاف حيلٍ أو رِكابٍ، وقد انتصرنا على الإمبراطورية الرومانية في معركة تبوك بالرعب مسيرة شهر.

    وأما وجوه الشرور والمفاسد في البرنامج الآخر فقد ضاقت عنها مساحة المقال؛ وأرجأت تدوينها إلى المقال القادم إن شاء الله تعالى.

    والحمد لله على نعمة إحدى الحُسنيين

اخبار ذات صلة