تتزايد المؤشرات على قرب التوصل إلى اتفاق بين تركيا وإسرائيل ينهي القطعية التي استمرت بينهما خمس سنوات جراء اعتداء الأخيرة على سفينة مرمرة التركية أثناء إبحارها لكسر حصار قطاع غزة، لاسيما في ظل المصالح المتعددة التي يسعى كل طرف لتحقيقها من إبرام الاتفاق المرتقب.
ورغم عدم الاعلان عن انجاز الاتفاق إلا أن التسريبات الإعلامية الصادرة من الطرفين تشير إلى أنه في مراحله الاخيرة، كما صرح بذلك مسؤول تركي معلناً أن مفاوضات تطبيع العلاقات بين بلاده و"إسرائيل" المتواصلة منذ فترة وصلت إلى المرحلة النهائية.
هذه التسريبات تطرح تساؤلات حول شكل رفع الحصار والآليات التي سيتمخض عنها الاتفاق لإنهاء الحصار والذي شكل عقبة أساسية في طريق المفاوضات بعد إصرار تركيا على تنفيذه قبل إعادة العلاقات مع إسرائيل التي استجابت لشرط "الاعتذار والتعويض".
تجاوز الغرف المغلقة
ومن الواضح أن هناك حراكا تركيا جديا واهتماما كبيرا بملف رفع الحصار تجاوز الحديث في الغرف المغلقة إلى دراسة الواقع على الأرض وذلك من خلال الوفد الاقتصادي التركي الذي زار غزة مطلع الشهر الجاري برئاسة رفعت أوغلوا رئيس اتحاد الغرف التجارية التركية والذي يعتبر رجل الاقتصاد الأول في تركيا.
وعلى ما يبدو فإن تركيا تحاول تجاوز الإطار السياسي للحصار والوصول إلى حلول اقتصادية تعمل على تفكيك الحصار من خلال مشاريع اقتصادية تعيد من خلالها تشغيل المناطق الصناعية في القطاع في الشمال والشرق، كما تبحث ايجاد حلول لأزمة الكهرباء.
ويجب التذكير بزيارة وفد من حماس برئاسة خالد مشعل رئيس مكتبها السياسي بعد أقل من يومين على الحديث عن المباحثات الإسرائيلية التركية إلى أنقرة ما ظهر وكأنه تنسيق تركي مع حماس حول آليات رفع الحصار ومحاولة الحصول على بنود وآليات دقيقة لمناقشتها مع الجانب الاسرائيلي على اعتبار أن "أهل مكة أدرى بشعابها".
ولإعادة إنعاش الاقتصاد الغزي بمعنى تحريك عجلة الصناعة والتجارة فهو بحاجة لمنفذ ومعبر يعمل على مدار الساعة ويسمح بدخول وخروج المواد الخام وكل الاحتياجات بحرية كبيرة، لذا فإن تركيا تضغط باتجاه انشاء ممر بحري أو ميناء عائم قبالة شواطئ غزة، وهو ما رفعت إسرائيل الفيتو عنه، وقد اتضح ذلك من خلال تسريب الصحافة الاسرائيلية لرسالة مصرية وصلت إلى حكومة الاحتلال تبلغها رفضها وجود أي منفذ آخر للغزيين غير معبر رفح.
ومن المفارقات أن تركيا وإسرائيل وصلتا إلى قناعة بضرورة تخفيف القيود المفروضة على غزة، لكنها تصطدم بمعارضين أبرزهم مصر والسلطة الفلسطينية في رام الله ومؤخرا روسيا، لذا يحاول الطرفين تذليل العقبات قبل الإعلان عن أي اتفاق.
ويسعى طرفا المباحثات إلى إنضاج الاتفاق بما يحقق فائدة اقتصادية منه، كما تحاول السلطة الفلسطينية إيجاد موطئ قدم لها في القطاع المحاصر كونها ستخسر جزءا كبيرا من مواردها المالية التي تجبيها منه في حال بناء الميناء، وبالتالي قد تكون المصالحة أو بالأحرى "إدارة الانقسام" هي المدخل لهذا الدور من خلال تشكيل حكومة توافق تشرف على تنفيذ الاتفاق، وهذا لم يأت بمعزل عن لقاءات أنقرة والدوحة الأخيرة بين فتح وحماس.
في المقابل تقف عقبة أساسية أمام الطرفين وهي مصر التي ترفض أي حراك يخفف من القيود المفروضة على غزة، فكيف إذا كان الحراك من البوابة التركية التي تشوب العلاقة بينها وبين القاهرة توترا كبيرا وصل حد سحب السفراء وذلك منذ الانقلاب على الرئيس المصري محمد مرسي منتصف العام 2013.
وتدرك إسرائيل أن النظام المصري مأزوم وسفي حالة تراجع، وأنه ليس في وضع يسمح له بالفيتو على رفع الحصار، وقد يجبر في النهاية على القبول بالاتفاق إما من خلال الوساطة التي قالت إسرائيل أنها تقودها لتحسين العلاقة بين القاهرة وأنقرة أو من خلال تحريك تركيا للدور السعودي للضغط على القاهرة على اعتبار أن البلدين "تركيا- السعودية" في تحالف استراتيجي ويتفقان في الرؤية حول الكثير من ملفات المنطقة. وفي حال شعرت القاهرة أن الاتفاق في طريقه للنور فإنها ستشارك فيه حتى لا تخسر دورها ومصالحها ووهجها لصالح تركيا.
اعادة انتشار تركي
ولم يكن الموقف الروسي مفاجئا الذي جاء عبر وزير خارجيتها سيرغي لافروف الذي أبلغ الطرف الاسرائيلي رفض بلاده للاتفاق ولأي موطئ قدم لتركيا في غزة، وذلك عقب الأزمة الروسية التركية بسبب الموقف من سوريا والتي ازدادت حدتها بعد إسقاط الطائرة الروسية.
وفي تقدير استراتيجي أعده مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات رجح أن يتم بلورة اتفاق يعيد العلاقة الديبلوماسية (إذا ما بقيت البيئتان الدولية والإقليمية على حالهما) والوصول إلى حلّ مقبول للطرفين بشأن تخفيف الحصار عن غزة بما يبدو انتصاراً تركياً ودون أن يظهر في التفسير الإسرائيلي كسر للخطوط الحُمْر.
ويظهر التقدير أن هذا الحل الوسط قد يكون ممراً بحرياً تركيا أو عالمياً نحو قطاع غزة لإدخال المواد الأساسية (برقابة دولية)، أو "وضع خاص" يعطي للسفن ومؤسسات المجتمع المدني التركية حق الدخول إلى غزة، فضلاً عن تسهيل إعادة الإعمار، وهو ما يعني أن الاتفاق سيكون مرضياً عنه مصرياً في الحد الأدنى، أو سيكون ضمن اتفاق إقليمي أوسع (يشمل تحسن العلاقات التركية - المصرية) في الحد الأقصى.
وأمام المعطيات التي تدفع باتجاه التوصل لاتفاق يجب التأكيد على أن لكل طرف مأرب في تنفيذه وأهمها بالنسبة لتركيا إن اتفاق كهذا سيكون بمثابة إعادة انتشار سياسي لها في المنطقة تظهر من خلاله كقوة إقليمية قادرة على حل ملفات معقدة، وذلك بعد الانتكاسة التي منيت بها في ملف سوريا وعلاقتها المتوترة بروسيا، وسيعوضها عن الغاز الروسي. كما أنها ستبدو لاعب مهم في القضية الفلسطينية والوحيدة التي نجحت حل عقدة الحصار ما سيعزز من صورتها ودورها في المنطقة.
في المقابل تأمل إسرائيل من هذا الاتفاق أن تحقق جزء من أهدافها الاستراتيجية وأهمها تعزيز علاقاتها بالمحور السني والتي تعتبر تركيا أحد أهم أركانه، كما سيضمن هدوء الحدود مع غزة في ظل التهاب الحدود الشمالية لإسرائيل. كما تأمل إسرائيل أن تلعب تركيا دور الضامن والمحتوي لقوة المقاومة في غزة، وتأخير الصدام معها قدر المستطاع، فضلاً عن إمكانية أن يكون لتركيا دور مهم في ملف الجنود الأسرى لدى المقاومة.