أعتذر للطبيب غير الصبور، بسبب تأخري عن الموعد. أحاول أن أشرح له أن الأمر لم يكن بيدي. أعرب عن تذمري من أزمة السير الخانقة غير المبرّرة. أصف له منظر الرجل الوسيم، بسيارته الفارهة وسيجاره الكوبي، وهو يلقي القمامة في الشارع بقلب بارد، من باب تزجية الوقت إلى حين اخضرار الإشارة، فيما شرطي السير، غافلاً عمّا يدور حوله من مخالفات وتجاوزاتٍ، منهمكاً بكتابة رسالةٍ نصيةٍ إلى أحد ما، لا أنسى الإشارة إلى المصادفة التي جعلت سيارتي توازي، في لحظة عدالة مرورية غير محسوبة، سيارة المسؤول السابق، منتفخ الأوداج، ثقيل الظل، محدود المعرفة، الذي تحوّل إلى معارض شرس، بعد استنفاده، وأفراد عائلته وأنسبائه، كل المناصب المتاحة في الدولة. أحدّثه، في السياق نفسه، عن فتاة متوسطة الجمال، تستغل بطء حركة المرور المثير للسأم، كي تصلح مكياجها من خلف المقود. وعن متسولين، بإعاقات مفتعلة، وعن بائعي الورد الذابل، المرابطين عند الإشارات الضوئية. يغضب الطبيب، بسبب عدم تنفيذي نصيحته بالكف عن الفضول والاستغراق في التفاصيل القبيحة للبشر، ويؤكد لي أن ذلك هو السبب الأساسي الذي يدفعني لسرك أسناني طوال الليل، ما يؤدي إلى شدٍ عضليٍّ دائم في منطقة الحنك، يؤكد على ضرورة التزامي بالدواء، وأهمية الاسترخاء، والابتعاد عن كل ما ينغّص الحياة.
حسناً، يا طبيبي العزيز المكترث: ما رأيك، ومن أجل خلاصي من كل أمراضي غير المستعصية، أن أكف عن إنسانيتي بالمرة. ما الداعي لها أصلاً؟ بدون مشاعر الرأفة والتضامن مع المستضعفين، ستكون الحياة أكثر سهولة، سوف (أكبس) على زر وحشي ما، غائر في هذه الروح الضائعة، لعلّي أتمكّن من التحوّل إلى كائن بليد، يردد بغباء مقولات إعلام مشبوه، فأعتبر الموتى جوعاً في مضايا، المحاصرة بالباطل والجور والبهتان، مجرد فبركة إعلامية، بل سوف أسخر من هذا المشهد السريالي، وأعتبره مناسبة لإطلاق نكات رديئة ساقطة، لا تثير في النفس سوى الغثيان. وأثرثر فيما لقمة مغمّسة بالضلالة تتناثر من فمي عن ضرورة قتل صغار مضايا، انتصاراً لمقاومةٍ ثبت أنها غاشمة.
هل يرضيك هذا، يا طبيبي العزيز، وقد شطبت سلفاً القنوات الإخبارية قاطبة، لا أريد أن أسمع شيئاً، لا أريد أن أعرف شيئاً. سأغلق أذني بسدادةٍ حاجبةٍ لصوت المتضوّرين جوعاً. سأمارس حياتي باسترخاء كبير، أتابع باهتمام بالغ أخبار المشاهير على (إي تي بالعربي)، وأفرح لأن هيفاء وهبي حازت على لقب أحلى طلة، بحسب آخر استطلاع للرأي. وأبدي قلقاً عميقاً لأن صابر الرباعي تعرّض للضرب بالأحذية في حفل رأس السنة. وسوف أكون أكثر اطمئناناً لوجود نانسي عجرم في (فويس كدز)، ولن أبدي أي تحفظ حول مقدار التشويه الذي سيحدثه برنامج كهذا في أرواح صغار حالمين، يكسر خاطرهم دورياً برعاية شركات معلنة على الهواء مباشرة، سوف لن احتدَّ عند محاورة أحد الممانعين الأشاوس، أحكيلك؟ لن أدخل في أي حوار جاد من أي نوع، سأكفّ كذلك عن مضايقة متسولةٍ محترفة، استوطنت بالقرب من حاوية قمامة، استدراراً لمزيد من الشفقة. لن أبدي استهجاناً، حين ترد بكل صلافة على استنكاري، بسبب التصاق أولادها بالحاوية: إنهم ليسوا أولادي، بل مستأجرون (يكلّفني الراس ليرتين في اليوم). سأصدّق، بدون أدنى تردد، ما قالته شقيقتي المتديّنة (الظلم الظاهر عدل باطن)، رداً على سؤالي الطفولي المباشر الساذج: لماذا يرضى الله بكل هذا الظلم؟ لم يُقنعني ذلك، بطبيعة الحال، غير أني لذتُ بالصمت، احتراماً لحقها في اليقين. نعم، اليقين هو كل ما يلزمني في هذه اللحظة المفصلية. سأذهب إلى موسيقاي الكلاسيكية الهادئة، سأسيطر على عقلي تماماً، وأعيد برمجته، كي يرى الحياة وردية زاهية، ليس فيها خوف أو مرض أو فاقة. سأقود سيارتي بهدوء، سأواظب على سماع وديع الصافي، مردداً أغنيته البديعة (يا عيني على الصبر يا عيني عليه). سأفعل ذلك كله وأكثر، شريطة أن تخبرني لماذا ما زالت أسناني تصطك رعباً، حتى ساعة إعداد هذا النص.