قائمة الموقع

قصة الكسيح ..

2010-05-20T15:23:00+03:00

بقلم الكاتبة: رشا فرحات

في ارتباك ملحوظ دخل إلى تلك الحجرة، يجر وراءه قدماً عليلة بطيئة الحركة ،وبدا كمن يحمل هموم الزمان على أكتافه ، ثقيلاً ، بطيئاً ومتعباً .. نظر إلى طلابه المنتظرين .. في أول يوم عمل له في الجامعة بعد حصوله على درجة الدكتوراه وتسلمه رئاسة القسم.. تفحص وجوه الحاضرين.. ثم سأل كل منهم عن اسمه .. استوقفه ذلك الوجه .. يعرفه تماماً.. فلم يقدر على نسيانه يوماً .. انه هو !!!!!هو!!هو بذكريات الطفولة المريرة التي يحملها له في صدره وعقله الذي لا ينسى شيئاً ، هو ذلك الولد اللعوب !!من كان يجالسه في نفس المقعد لثلاث سنوات متتالية ،مشكلاًهماً ثقيلاً على قلبه ، وهو يعلم تماماً انه لا أسوأ على نفس عبقري مثله من مجالسة غبي مثل صاحبه هذا..لكن زميله يرفض الجلوس بجانب احد غيره ، مصراً على تزوير نجاحاته وسرقتها منه ، بقوة جسده وعضلاته ، ابتسم مرارةً حينما تذكر تلك التهديدات المتواصلة له إذا ما رفض أن يساعده في امتحان أو نسي تلقينه الدروس التي لم يواظب يوماً عليها ، إنه هو ..بلكمته الموجعة تلك التي ناوله إياها عند رسوبه في امتحان الحساب برغم ما لقنه له من أجوبه..

 تأوهات مكبوتة أخرجها من صدره ، تحدثت عن صمت الطفولة الصارخة رغم تقدم العمر.. محتقرة لذلك الجسد الطويل المكتنز غباءً  إلى جانب لحمه وعضلاته ، لم يكن قد تجاوز الرابعة عشر وقتها ، نظر إليه ، ما زال على حاله مفتول العضلات قوياً ..

 

التفت خِلسةً إلى يده العليلة الرابضة الساكنة إلى جانبه ، وألقى نظرةً منخفضةً على قدمه التي يجرها حملاً ثقيلاً أتعبه كل هذه السنوات ، ولاحت أمام عيناه كلمات ذلك الزميل الراسب ، الذي ينتظر منه الآن أيضاً أن يعطيه شيئاً مما علمته إياه السنين ، لاحت على وجهه لفحة من ألم  عندما تذكر تلك الكلمات التي كانت تتردد على مسامعه يومياً من ذلك الفم الذي لا يعرف معنىً لما يقول ،والتي ما زالت ترن في مسامعه, تعصف به كمس كهربائي يسري في جسده ، ذلك هو زميل الدراسة ..الجسد المفتول الذي كان يجذب كل فتيات الحي صاحب تلك الكلمات البشعة - لم يبقى إلا أنت أيها الكسيح - التي كان ينعته بها في كل وقت وأمام أي كان على سبيل الدعابة والتسلية فتأتي كطعنات تمزق جسده العليل وقلبه الجارف حباً، فتعيده أصداء الكلمات إلى الواقع ، حينما كان يصفه أهل الحي بالكسيح ، فغدت نعتا ملتصقاً باسمه.

 

 شاعر هو ذلك الكسيح ، منذ نعومة أظافره ، لا يقوى على توجيه كلمات جارحة إلى احد ، ابتسامة عريضة مرسومة دوماً على شفتيه ، تخشى من انتقال جراحه الدفينة إلى احد فتتسبب في خدش قلوب بريئة تشاركه الألم رغم ذلك النعت الملتصق بالجسد ،تصاحبه تلك النظرة الثاقبة التي تحكي ذكاء وشغفاً للعلم والمعرفة. لاحت أمام عينيه الكثير من الذكريات وهو ينظر إلى ذلك الوجه العابث الذي لا يعلم كم من جراح الطفولة قد ثارت اليوم برؤيته..تذكر مديح أساتذته له ، تذكر عقله القادر على انتقاء البشر بحكمة فاقت أقرانه ، كلماته الرقيقة ، درجاته المرتفعة ، نجاحاته المتواصلة  ، قصائد الشعر التي تخطها يداه كل ليلة ، فحولته إلى كاتب تهافتت على كلماته كل القلوب العاشقة ..

 

كل شيء في حياته تغير.. لكن قدمه بقت كما هي كابوساً يرن بصوت قاسي من بعيد ليعيده إلى تلك الكلمة والى ذلك المقعد القديم .

لكن ..ما بين أعماق الصمت الصارخ بينهما.. صوتاً يسمعه الآن لأول مرة، اعترته على أثره رياح المفاجأة ، وهو ينظر إلى طلابه بعيون تستفهم عن مصدر الصوت ، هو فقط من يسمعه إذن ، خارجاً من تلك القدم المستلقية كعقدة متينة في أسفل جسده ..صرخت أخيرا.. تحدثت عن قوتها ، عن دفعات الآمل التي جرته رغماً عنه إلى النجاح ، زارعة إيماناً عظيماً في ذلك القلب لتعيده إلى مكانه الصحيح ، ذكرته بأعباء الخطوات التي مشتها رغماً عنه، أثناء تنقله لاستكمال تحصيله العلمي  ، حيث كان يحضر دراساته العليا ، وهي راضية تملأها الثقة والاعتزاز بصاحبها ،ذكرته برسالة الدكتوراه التي حصل عليها أخيراً ،والتي تكبدت هي عناءها إلى جانبه صامتةً راضيةً فرحةً من أجله .. ذكرته بأنها لم تشكو يوماً رغم ضعفها ، وبرغم كل ما يعتريها من ألم ..تكلمت رغماً عنه ، لتقف برأس مرفوعةٍ خارجةً من تلك العظام القوية برغم خجله منها ، مودعةً بكل بساطة أيام الضعف ، لتصرخ في وجهه للمرة الأولى (أنت الأقوى ).

ابتسمت تلك القدم العليلة لصاحبها وهو يجلس في مقعده الوثير متفاخراً..مرتاحاً ..راضياً .. لأول مرة ، بابتسامته العريضة ونظرات الثقة ذاتها في عيناه الثاقبتان .. ليده التي تربت اعتزازاً على تلك القدم القوية.. طارحاً سؤالاً على رفيق ذكرياته القديمة :

هنا تكمن قوتي...فأين يكمن ضعفك ؟؟!!!

 

اخبار ذات صلة