غزة – وكالات – الرسالة نت
تقاسم مياه النيل مشكلة قديمة جديدة تطفو على السطح من حين لآخر عند بناء سد جديد في إحدى دول المنبع، أو إثارة بعض دول المنبع للقضية أو اكتشاف تمويل الكيان الصهيوني للعديد من المشاريع المائية على ضفاف النيل في دول المنبع.. إلخ؛ ولكن هذه المرة تختلف المشكلة عن كل مرة، ففي كل مرة ظلت الاتفاقية الخاصة بتقسيم مياه النهر بين دوله، والتي تمَّ توقيعها في العام 1929م، وتم تجديد التوقيع عليها في 1959م، كما هي حافظة لحق مصر القانوني فيما يأتيها من مياه النيل.
أما هذه المرة فتعبث 4 دول من دول المنبع بالاتفاقية، بل إنها تجاهلت هذه الاتفاقية لتوقع اتفاقيةً جديدةً تمامًا، متجاهلةً بذلك مصر والسودان بشكل يهين الدولة المصرية بطريقة غير مسبوقة من هذه الدول التي لطالما خضعت بشكلٍ أو بآخر لمصر؛ وقَّعت كل من إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا على نص بتشكيل لجنة لإدارة مشاريع الري والقنوات والسدود على طول نهر النيل، ويعتبر اختيار أديس أبابا عاصمة إثيوبيا التي تمثل قوة إقليمية كبيرة؛ لتكون مقرًّا لهذه للجنة التي تملك حق الفيتو على أي مشروع بنية تحتية خاصة بالنيل تعد إهانةً إضافيةً لمصر.
ردود أفعال دول المصب
بدت ردود الأفعال لدول المصب عنيفة لو خرجت هذه الردود من إحدى الدول الغربية لقامت بعدها حروب طاحنة، ولأُسيلت بعدها دماء كثيرة، لكن ردود الأفعال المصرية والسودانية اقتصرت على التصريحات الملتهبة؛ حيث صرَّح وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط أن حقوق مصر التاريخية في المياه لا تزال خطًّا أحمر.
وأكد وزير الري والموارد المائية محمد علام أن مصر تحتفظ بحقها في اتخاذ جميع التدابير اللازمة، كما أكد المستشار السياسي للرئيس السوداني مصطفى عثمان إسماعيل تطابق مواقف مصر والسودان في التعامل مع أزمة حوض النيل، وقال إن أي اتفاق لا يحمل توقيع كل دول حوض النيل لن يكون له مفعول على أرض الواقع، مشيرًا إلى عدم توقيع كل من بوروندي والكونغو الديمقراطية وكينيا على الاتفاق الأخير الذي وقَّعته الدول الأربعة الأخرى.
بينما بدت تصريحات رئيس الوزراء المصري أحمد نظيف ساذجةً عندما قال إن مصر ليست في خطر بسبب توقيع بعض دول حوض النيل اتفاقية إطارية، وإن حقوق بلاده في مياه النيل مسألة محسومة من الناحيتين القانونية والعملية، وإن هذه الاتفاقية الإطارية ليست ملزمةً لمصر من الناحية العملية، ولا تلغي الاتفاقيات القائمة، في حين أن التزام أو عدم التزام مصر بهذه الاتفاقية لا يعني شيئًا؛ فمصر دولة مصب لا تستطيع التحكم في المنابع وكلمات نظيف تعكس نفس اللهجة التي يستخدمها النظام مع معارضيه في الداخل.
وترددت أنباء صحفية إرسال مصر وفدًا من جهاز سيادي لزيارة كينيا لإجراء الترتيبات الخاصة بزيارة رئيس الوزراء الكيني إلى مصر يوم 22 مايو الجاري؛ لبحث آخر التطورات في ملف مياه النيل، كما يلتقي الوفد المصري عددًا من المسئولين بوزارة المياه الكينية لبحث موضوع الاتفاقية الإطارية لمياه النيل، كما يزور الوفد نفسه أوغندا في محاولات لرأب الصدع الذي أحدثته هذه الاتفاقية ولكن.. هل يمكن أن يحرِّك هذا التحرك ساكنًا إذا ما تمسكَّت الدول الموقعة على الاتفاق الإطاري بموقفها؟
حقيقة القوة المصرية في حوض النيل
لم تعد مصر تلك القوة الإقليمية الناعمة أو الخشنة، وتحولت إلى مجرد دولة هشة، نظامها يدب فيه الضعف بجذوره يتعامل مع العالم من حوله، وكأن التاريخ لم يتحرك، وكأن مصر القرن الحادي والعشرين هي نفسها مصر القرن العشرين، داخليًّا لا يجتهد النظام في فهم ما يدور بالمجتمع المصري من تمزق، وخارجيًّا يتعامل مع أبناء إفريقيا بروح متكبرة ويد مرتجفة، فبعد أن سمع الرئيس المصري دوي الرصاص في أديس أبابا في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي قاطع القارة السمراء بكاملها، فلم يتوجه إلى إفريقيا مرةً أخرى، ولم يحضر أي قمة إفريقية جاءت بعد ذلك.
وظل النظام المصري بكل أجهزته متجاهلاً إفريقيا تمامًا، مسقطها من حساباته، وكأنها بلاد لا تمت إلينا ولنا تمت إليها لا من قريب ولا من بعيد، ولا ينصب هم النظام المصري إلا على إستراتيجية الاستمرار من أجل الاستمرار دون الإجابة على أسئلة ككيف يستمر؟ ولماذا يستمر؟.. إلخ المهم هنا هو تحقيق الاستمرار وفقط.
نظام كهذا لم يترك الفرصة للولايات المتحدة والكيان الصهيوني فقط؛ ليمليا عليه شروطهما، بل إنه أهدى هذه الفرصة لدول مثل أوغندا ورواندا.
الواقع يقول إن 90% من احتياجات المياه للشعب المصري الذي يصل إلى 80 مليون نسمة تعتمد على موارد نهر النيل، وأن مصر تحصل على نصيب الأسد من مياه هذا النهر، كما تحصل مع السودان على 87% من مياه النهر، وهذا هو الوضع الذي تسعى إلى تغييره الدول الأربع في حوض النيل، والتي وقَّعت على الاتفاقية، إذ أعلن وزير الموارد المائية في إثيوبيا أن مياه النيل ملك لجميع الدول وليس لقلة قليلة منهم.
بالإضافة إلى ذلك تكمن خطورة توقيت التوقيع على هذا الاتفاق الإطاري في أنه يأتي قبل ثمانية أشهر من استفتاء يناير 2011م في الجنوب السوداني، والذي سيؤدي في الغالب إلى انفصاله عن السودان؛ حيث يمر النيل الأبيض، خاصةً أن إثيوبيا وأوغندا تعدان من الحلفاء القدامى لرجال جنوب السودان الذين سيمثلون الحكومة المستقبلية للدولة الجديدة المحتملة.
وهو ليس بالنبأ السار لمشروع حفر قناة جونقلي في جنوب السودان، والمتوقف العمل بها؛ على الرغم من انتهاء الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في عام 2005م، وهو المشروع الذي تعتمد عليه مصر بشكل كبير؛ حيث إنه سيعمل على تحسين تدفق مياه النيل الأبيض.
أما المتحدثون عن احتمالية شن حرب مصرية سودانية ضد إثيوبيا وأوغندا، فهو حديث خيالي غير وارد الحدوث، ليس فقط لعدم تحمل الاقتصاد المصري تبعات أي حرب، ولو كانت مع بعض العصابات؛ ولكن لعدم وجود أية نية لدى النظام للتحرك الإيجابي الذي يحتاج إلى الجبهة الداخلية، فجبهة النظام الداخلية ليس لها وجود إلا من بعض أصحاب المصالح.
مؤامرة صهيونية
لا شك أن ما حقَّقه الكيان الصهيوني من انتصارات بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد كان أكبر من أن يحصى، ومقابل كل مكسب صهيوني توجد خسارة على الجانب المصري؛ حيث استطاع الكيان الصهيوني بعد توقيع الاتفاقية الانفتاح على دول حوض النيل بل ودول القارة السمراء بأكملها، والتي كانت موصدة في وجهه بشكل شبه كامل، والآن يقف الكيان الصهيوني داعمًا لدول حوض النيل لتكون عاملاً إضافيًّا لإضعاف العدو الجميل- كما تطلق الأدبيات العبرية على مصر- والذي إذا ما استيقظ من ثباته سيهدد الكيان الصهيوني في وجوده.
ليس هذا فحسب وإنما لإيجاد طريق جديد لحل واحدة من الهواجس الأمنية الصهيونية، والتي تتمثل في المياه؛ حيث يمكن شراء كميات هائلة من مياه النيل للاستفادة بها في زراعة صحراء النقب؛ حيث إن دول حوض النيل في الحقيقة لا تستفيد سوى من 5% فقط من مياه الأمطار التي تسقط على جبال الحبشة.
وهناك حقائق أخرى منها أن فيضان النيل انخفض هذا العام بشكلٍ لافت، وهناك توقعات أن يشهد الفيضان في السنوات المقبلة مزيدًا من التقلص ما قد يعرِّض مصر لسنوات عجاف قد تطول، وقد تأتي سريعًا بسبب تحركات الكيان الصهيوني ودول المنبع، وقد كانت حصيلة العام الماضي في بحيرة ناصر لم تحقق إلا 51 مليار متر مكعب أي أقل من حصة مصر، والتي تقدر بنحو 55.5 مليار متر مكعب سنويًّا، وقد انخفضت هذا العام بنسبة أكبر.
ومصر هي الدولة الأكبر والأكثر اعتمادًا على مياه النيل والأمطار بها شبه معدومة، والمياه الجوفية غير متجددة؛ ولكي تحافظ مصر على نصيب الفرد من المياه فإنها ستكون في حاجةٍ إلى نحو 77 مليار متر مكعب بعجز 22 مليار متر مكعب عما يصلها فعلاً الآن، ويمد النيل الأزرق الإثيوبي مصر بنحو 85% من المياه التي تخزن في بحيرة ناصر، وغالبية دول حوض النيل لا تعرف كيف تستفيد من المياه التي في حوزتها وغالبية مشاريعها عشوائية.
إثيوبيا التي تتزعم حركة دول المنبع في تجاهل مصر والسودان وزيادة حصة دول المنبع من المياه توصف بنافورة إفريقيا؛ حيث ينبع من مرتفعاتها أحد عشر نهرًا تتدفق عبر حدودها إلى الصومال والسودان، وتصبُّ هذه الأنهار 100 مليار متر مكعب من الماء إلى جيران إثيوبيا التي تعيش في حالةٍ حرجة؛ بسبب الزيادة الكبيرة في السكان مع حالة من الركود وضعف الإنتاج الزراعي ونقص حاد في الطاقة، كما أن 83% من سكان إثيوبيا يعيشون بدون كهرباء، و94% يعتمدون على حرق الأخشاب؛ للحصول على ما يحتاجون من وقود، رغم وجود مصادر مياه غزيرة هناك قادرة على توليد الطاقة من اندفاع المياه فوق هضابها ومرتفعاتها الشاهقة المناسبة لذلك.
وتتنافس كلٌّ من بكين وواشنطن في تمويل أكبر قدرٍ من مشروعات السدود على أنهار إثيوبيا كنوعٍ من حرب باردة جديدة لكسب القارة الإفريقية بمواردها، بالإضافة إلى الكيان الصهيوني الذي يمول العديد من السدود ليس في إثيوبيا وحسب وإنما في العديد من دول منابع النيل، والذي صارت له يد طولى في إفريقيا، امتدت عبر كامب ديفيد لتعبث في دول حوض النيل الحديقة الخلفية لمصر وحاضنة أمنها القومي الذي لم يفهم بعد النظام المصري أنه يمتد إلى أبعد من الحدود السياسية المعروفة، ويبدو أن أبناء الشعب المصري والجيل القادم سوف يدفع ثمنًا باهظًا لم يجرؤ على دفعه آباؤه من الشعب والنظام الحاكم.
نقلا عن اخوان اون لاين