في رحاب آية

مقال: ( عملية أبي سرور هزمت الغُرور في صدور ذوي الفُجور وعُشَّاق الخُمور )

د. يونس الأسطل
د. يونس الأسطل

د. يونس الأسطل

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ  (البقرة (207)

على شوقٍ وظمأٍ جاءت عملية السقف الطائر للباص المتفحم؛ فقد تباهى كلٌّ من قادة الاحتلال، وصعاليك التنسيق الأمني؛ أنهم قد استطاعوا خفض مستوى المقاومة في انتفاضة القدس إلى الحدِّ الذي يُنذر بتوقفها ووفاتها، وما دَرَوْا أن سياسة الاغتيال والاعتقال هي الوقود الضروري لاستمرارها، وأن مَثَلَها كالجمر تحت الرماد، ما تكاد تهب عليه ريحٌ حتى يعود إلى الاتِّقاد، فضلاً عن قدر الله جلَّ جلاله أن يظلَّ الجهاد ماضياً فوق هذه الأرض المباركة للعالمين، وأن الطائفة المنصورة ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس، لا يَضُرُّها من خالفها من المنافقين، ولا مَنْ خذلها من التافهين، بالإضافة إلى وَعْدِ الآخرة الذي تأذَّن فيه الله ليبعثنَّ على بني إسرائيل حين يفسدون في الأرض المقدسة، ويعلون عُلُوَّاً كبيراً، عباداً له أُولي بأسٍ شديد؛ ليسوؤوا وجوههم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرةٍ، وليتبروا ما عَلَوْا تتبيراً، وقد أسأنا وجوههم في الحروب التي وقعت في بضع السنين السابقة، وتآكلت قوة الردع التي يتوكَّؤون عليها، كما طُمِسَتْ صورة الجيش الذي لا يقهر، كما صوَّره لكم شياطين الإنس والجن الذين يخوفونكم بأوليائهم اليهود.

وإننا متفائلون أن ندخل المسجد الأقصى في انتفاضة القدس هذه فيما دون خمس سنين، وقد جاءت عملية الشهيد عبد الحميد أبي سرور، فأدخلت السرور على نفس كلِّ غيور، وهو يرى الغُرور قد سيطر على الخنازير فهم يقتلون أبناءنا وفتياتنا وهم في عمر الزهور، كأنهم في رحلة صيدٍ لبعض الطيور.

وقد رغبتُ بآية المقال أن أذكِّر بعمليةٍ فرديةٍ أحدثت نكاية كبرى في جيش الروم، وزرعتِ الرعب في قلوبهم، كما حَرَّضت المؤمنين على القتال؛ ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم قد فُوجئوا بفارسٍ ملثم ينخرط تلقاء الأعداء قبل نقطة الصفر، ويدخل بين صفين، يقتل يميناً وشِمالاً، وقيل: إنه قد أفلت منهم، ودخل بين صفين آخرين ثم تكاثروا عليه فقتلوه؛ فإذا ببعض الصحابة يقول: ألقى بيده إلى التهلكة، فما كان من أبي أيوب الأنصاري الذي كان شيخاً كبيراً، ولم يكن يذر الجهاد أبداً بعد قول الله تعالى: " انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا .." التوبة (41)، ما كان منه إلا أنْ رَدَّ ذلك الفهم الخاطئ، وقال: فينا -معشر الأنصار- نزلت هذه الآية، حين نصر الله نبيَّه، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، فقال بعضنا لبعض سِرَّاً من رسول الله: لو أننا الْتفتنا إلى حوائطنا وضِياعنا -أي حقولنا ومزارعنا-، فأصلحناها، فأنزل الله تلك الآية: " وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ .." البقرة (195)، فكان ترك الإنفاق والجهاد في سبيل الله هو التهلكة.

وأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد رأى أنه ممن شَرَى نفسه ابتغاء مرضاة الله؛ فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله، فَيَقتلون ويُقْتلون، وإن مما يُضحك الله عز وجل من عبده أن ينغمس حاسراً في العدو؛ فلا يلبس دروعاً سابغات؛ تَعَرُّضاً للشهادة، ويقيناً بأن العباد إذا جاء أجلهم، فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، وكذلك يضحك ربنا من رجلٍ انكشف عنه أصحابه، فلحق بهم، ثم تذكَّر ما عند الله من الأجر لمن يقاتل، ولو وحده، وما عنده من العقاب لمن يولون مدبرين، فرجع وقاتل حتى قُتِل، ولسوف يؤتيه الله أجراً عظيماً.

وهنا نتساءل عن سِرِّ ختم الآية بالنصِّ على رأفة الله بعباده المؤمنين؛ حين يُغريهم بالمغامرة في قتال أعدائه وأعدائنا، وهو ما يؤدي إلى الشهادة كثيراً؟! والجواب هو أن الجهاد هو الحياة؛ لأنه يُشَرِّد بأعدائنا من خلفهم، ويقذف في قلوبهم الرعب، فتضع الحرب أوزارها، ويُبْدِلُنا ربُّنا من خوفنا أمناً، وإلَّا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً، ويتسلط  عليكم عدوكم، وهم إذا دخلوا قريةً أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك يفعلون، ومن هنا فإن الجهاد في سبيل الله من الرأفة بالعباد.

ومن أمثلة العمليات الفردية أو الفدائية إرسال عبد الله بن أُنَيسٍ رضي الله عنه إلى تجمع القبائل العربية بقيادة سفيان بن خالد الهذلي في منطقة عُرَنَةَ بين مزدلفة وعرفة؛ تأهباً للزحف على المدينة المنورة، وحين تمكن ابن أنيس من قتله، وإحضار رأسه بعد ثمانية عشر يوماً من الغياب؛ تفرَّق أصحابه، وكان هذا من أَخْذِ الحِذْر الواجب بالنفير ثُبَاتٍ، أي بصورة فردية، أو بعدد محدود، كما حدث حين تمكن أبو نائلة ومحمد بن مسلمة من اغتيال كعب بن الأشرف الذي رَثَى قتلى قريش في بدرٍ، وحرَّض على الثأر بغزوة أُحُدٍ، وكذلك تمكن عبد الله بن عَتيكٍ رضي الله عنه من اختراق حصون خيبر، وقتل أبي رافع سلام بن أبي الحقيق في غرفة نومه داخل قصره، وهو من سادات خيبر الذين شَدُّوا الرِّحال إلى مكة، وحَرَّضوهم على غزوة الأحزاب، ثم تحوَّل أبو رافع ومن معه إلى غطفان، وأغروهم بكلِّ ثمار خيبر في ذلك العام، فدخلوا معهم تلك المعركة، والقصة معروفة.

    ولا زال اليهود المعاصرون على آثارهم يُهرعون، وهذا هو السر في إقدام الانقلاب على إغلاق المعبر، وقيام الهاشميين بإخراج الإخوان المسلمين في الضفة الشرقية عن الشرعية، كما قام عباس والأوباش بالمسارعة في ولاء اليهود والنصارى؛ حقداً على الإسلام، وحسداً لأولياء الله، ولا مخرجَ إلا بالمقاومة، وتطوير الانتفاضة، كما فعلها الشهيد عبد الحميد أبي سرور ومن سبقه من الأبرار، ومن يلحق بهم من الأخيار الأطهار.

   وإن جندنا لهم الغالبون

البث المباشر