بوابة حديدية سوداء لونها لا يسر الناظرين، قد يتسبب صوت فتحها في أن تدمع عيناك فرحًا بعد ساعات من الذل والانتظار وأنت ترقب قفلها وقد فتح بعد اغلاق لثلاثة شهور!
ليومين فقط كيف لتلك الحقائب أن تمر جميعًا، كيف لهذه البوابة الضيفة أن تبتلع أوجاعهم وتعبر بهم الى مرفأ سلام؟!
تتجه الأنظار والقلوب صوب المنادي من خلف الزجاج في صالة أبو يوسف النجار المحطة الأولى لتجمع المسافرين في مدينة خانيونس جنوب القطاع علك تسمع اسمك أو اسم والدتك المقعدة على كرسيها المتحرك، تفيق من غفوتها لتسأل "نادوا علينا يمه؟"، قد تجيبها حسرتك أو بكاء أطفالك من حولك الذين لم تتسع المقاعد لهم.
بين الذل والخيبة!
تتعثر خطواتك بحقائبهم وخيباتهم التي تتزاحم هناك، حيث حطت "الرسالة" رحالها لترافقهم رحلة العبور الى المنفذ البري الوحيد "رفح".
بين مريض وطالب تقف عاجزًا بفوهة كاميراتك الى أي وجع لترصده، تتوزع الصرخات
على هذه البقعة الى أن تدرك جيدًا معنى الانتظار الممزوج بالكثير من الذل!
عيناها الواسعتان تزدادان اتساعا بالحزن الذي يسكنها والخوف من أن تفقد "خطيبها" بعد ثلاث سنوات من الخطبة دون أن تتمكن من السفر للم شملها معه في السويد حيث حال اغلاق المعبر دون عبورها!
العروس دعاء في العقد الثاني من العمر تتوسط والديها، كما يتوسط قلبها الهاجس بعد تخيير أهل خطيبها له " يا بتجيبها يا بتسيبها"!
تهدينا دعاء ابتسامة محدودة المدى سرعان ما اختفت بعد أن علت مكبرات الصالة بمناداة لأسماء المسافرين الذين وجب عليهم الصعود الى الحافلة.
على الجانبين يتكدس المسافرون داخل الصالة وفي ساحته يجوب المصورون الصالة لالتقاط ملامح المعذبين وأخرى تخبئ وجهها خوفًا أن يرى دمعاتها والدها البعيد في غربته عبر شاشات التلفزة.
بين غربتين!
من الطبيعي أن تصطدم قدماك بحقائب المسافرين التي فقدت غالبيتها لعجلاتها من كثرة المجيء الى المعبر أملًا بالمغادرة الا أن خيبة الارجاع دون السفر تصدرت المشهد في كل مرة.
تفوق عدد أصابع اليد تلك الصور التي التقطت للصغيرة تالين النائمة في عربتها أمام والدتها ايمان والتي انتظرت خبر اعلان فتح معبر رفح للمغادرة الى ذويها وزوجها في الخارج.
السورية ايمان ذات الجذور الفلسطينية عايشت فصول النكبة الفلسطينية بألوانها بدءًا بتهجير أجدادها من منشية يافا مرورًا بنزوحها من مخيم اليرموك في سوريًا وانتهاء بقصف بيتها في بيت حانون خلال عدوان 2014 على غزة الأمر الذي دفعها للبحث عن مأوى جديد لأطفالها.
طفلتها تالين والتي لم تفق على صرخات حاجة في المقعد الأمامي لهم وهي ترفع يديها الى السماء وجعًا وقهرًا في صورة هزت المتواجدين في القاعة بينما يحاول صغير لها أن يهون عليها بكتمه لمصدر النحيب ولسان حاله " العالم كله يا ستي ما بيسوى دمعة وحدة منك".
غادرت "الرسالة" تلك البقعة من مدرجات الملعب التي تحولت بين عشية وضحاها الى منصات للوجع بالتزامن مع توجه أولى الحافلات صوب معبر رفح.
غضروف وانفصال
في أوجاع الترحال فصول لا تكتمل الا بروايتها كحديث الحاجة آمنة المصري حيث اتخذت لوجعها مكانًا بين حقائبها التي استقر بها الحال فوقهم.
بصالة الانتظار الفلسطينية للمعبر تزفر الخمسينية الآه قهرًا وتقول:" تعذبنا عشان نطلع نتعالج، وكلها عذاب حياتنا".
الحاجة المصري التي اسودت الدنيا في نظرها لم تعد تشعر سوى بضغط فقرات ظهرها والآلام المصاحبة لها بسبب مضاعفات الانزلاق الغضروفي التي تحتاج لعلاج مكثف في مصر.
نتابع رصدنا للحالات المرضية التي تئن على مقاعد الانتظار في المعبر وجعًا، والتي لم تتوقف عند الغضروف فانزلقت لتصل المفاصل والسرطان والفشل الكلوي!
"صالح الأغا .. صالح الأغا" تكرر النداء على صاحب الاسم في الجانب الفلسطيني من المعبر الا أن "صالح" كان شارد الذهن وهو يتخيل لحظة لقائه بابنه الذي أتم الـ 12 من عمره بعيدًا عن ناظريه.
تدارك صالح الموقف وتوجه مسرعًا نحو نافذة الموظف وقدم اعتذاره قبل كل شيء واستلم جوازه بابتسامة، وقبل مغادرته الصالة سألناه:" على وين الدرب؟" فأهدانا ابتسامة حاول أن ينسى بها وجع الانتظار:" في طريقي للقاء ابني في رومانيا بعد سنوات من الحرمان بسبب اغلاق المعبر المستمر ".
"الأغا" الذي تحطمت أحلامه على عتبات "أم الدنيا"، حيث انفصل عن زوجته الرومانية قبل عشر سنوات ويزيد " لم أستطع المغادرة لها ولم تتمكن هي من المجيء لغزة " يقول صالح.
مشاهد الألم والمعاناة عادت لتفتح جروح أهل غزة مع فتح المعبر ليومين فقط، تلك الجروح التي لم تندمل من الشقيقة التي نصبت السدود بينها وبين البقعة الجغرافية الممتدة أصولها والمتجذرة تاريخيًا مع مصر.
قطة وبسمة
كان مغلقًا لثلاثة أشهر في وجه الوافدين والمغادرين، ومن لديه نية بالحياة أو البحث عنها بين مقاعد الدراسة في الخارج أو للعلاج وصولًا للم الشمل بأحبة غيبتهم الغربة والمعبر!
استعد الجميع وتوقفت الحافلة أمام البوابة السوداء التي كتب على يمينها بوابة الدخول للجانب المصري خلفها بشرة سمراء لجندي مصري تغطي ملامحه المدرعة التي يركبها.
أنظار العالقين وعدسات المصورين تتأهب لمشهد دخول الحافلة الأولى، سكون المشهد قطعته ضحكات الطفل قصي الذي كان يحاول أن يتخطى حدود السياج بحركاته البهلوانية وهو يردد: "بدي أطير وأوصل بابا".
قصي الذي لم يعرف هوية "بابا" ودوره في الحياة الا من خلال شاشة "السكايب" التي جمعته به على مدار الخمسة أعوام التي تجاوزها بيومين.
لم يتخط قصي السياج الفاصل الا أن احدى القطط "المصرية" كانت أول الوافدين الى غزة وأول من رسم البسمة على وجوه المنتظرين والعالقين حيث أطلقت النكات ومفردات الوجع الساخر متمنيًا أحدهم لو كان قطة حتى يتمكن من عبور "بلاد العرب" دون جواز أو هوية أو سنوات من الذل!
دارت عجلات الحافلة صوب البوابة وصوت محركها أعاد الأمل للحاضرين حتى ابتسم من فيها ورفرف العلم المصري أمام نظيره الفلسطيني، لكن سرعان ما أوصدت البوابة وبقيت حسرة القلب وسؤال أهل غزة: "متى ستفتح البوابة السوداء من جديد؟"