وسط غبار الحروب وشظايا المنطقة العربية التي تمطر سماؤها قنابل وصواريخ، برز فجأة الاهتمام بالقضية الفلسطينية التي أهملها العرب لسنوات طويلة، وبخلاف التوقعات فإن تحركات حيوية مستجدة بشأن "إنعاش عملية السلام" تبديها دول عربية محورية تجمعت حول القضية الفلسطينية فجأة، ووضعتها في سلم اولوياتها، من خلال المبادرة التي طرحتها مصر لاستئناف عملية التسوية، أو تعديل وتفعيل مبادرة السلام العربية.
والمفارقة هنا ان القضية الفلسطينية هي عنوان الاهتمام التي يتشدق به القادة العرب، لكنها فعلياً ليست أكثر من مجرد مدخل لمصالح الدول العربية مع (اسرائيل) التي لم تعد تشكل لهم العدو الأول، بل وفي كثير من الاحيان الحليف الذي تتلاقى معه المصالح العربية.
تلاقي المصالح بين عدد من الدول العربية والاحتلال الاسرائيلي يدفع بالأولى إلى التنسيق معه باستمرار تحت الطاولة وفوقها؛ لتمرير مصالحهم الخاصة، التي ترى أن العدو الأول هي ايران وبعض الجماعات المتحالفة معها، إلى جانب تنظيم الدولة والجماعات الجهادية المتطرفة.
وربما تعكس قوة التحركات في هذا الجانب الزيارات واللقاءات المستمرة في القاهرة وغيرها من العواصم؛ لتحريك عملية التسوية المجمدة بفعل التعنت الإسرائيلي، في حين يحاول العرب استرضاء (اسرائيل) من خلال الاستعداد لتعديل بنود المبادرة العربية التي رفضتها (تل أبيب) عندما طرحتها السعودية في القمة العربية عام 2002.
ونقلت القناة العبرية العاشرة، عن مصادر غربية قولها إن السعودية ودولا خليجية نقلت رسائل إلى (تل أبيب) بشأن استعدادها لتعديل مبادرة السلام العربية.
وذكرت المصادر أن رسائل بهذا الشأن نقلتها السعودية وبعض الدول الخليجية إلى الإسرائيليين عبر مبعوثين دوليين، منهم رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، وهي في انتظار رد إسرائيلي رسمي على اقتراح التعديل، لبدء المباحثات التي ستنطلق بقيادة مصرية على أن يتم بالاعتماد على نتائجها، استئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية.
هذه التسريبات تتزامن مع حديث وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بأن مبادرة السلام العربية لعام 2002 "لا تزال أفضل عرض لتسوية الأزمة الفلسطينية الإسرائيلية، ويجب ان يلتقطها الطرف الاسرائيلي".
التوجه نحو القضية الفلسطينية هو ضمن الترتيبات التي تشمل المنطقة ككل، والتي تسعى من خلالها الولايات المتحدة ان تنفذ مشروع شرق أوسطي جديد، لذا فان المجتمع الدولي والمحيط العربي يرغب بتهدئة الساحة الفلسطينية، والمحافظة على عملية التسوية بحدها الادنى، والدفع باتجاه اقامة كيان فلسطيني أيا كان شكله؛ لينهي الصراع، ويسمح للدول العربية بالتطبيع مع (اسرائيل)، والتعاون معها علانية دون حرج، وهو الهدف الاساس لكل الجهود التي تبذل حاليا.
ويعتمد المحيط العربي المبادرة العربية للسلام 2002 كأساس لإيجاد حل للقضية الفلسطينية ينهي الصراع، كما تبنت منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية المبادرة منذ اطلاقها، الا ان (اسرائيل) اعترضت عليها منذ اللحظة الأولى، بينما طالبت الولايات المتحدة بتعديلها مرارا كشرط لاتخاذها أرضية للتسوية.
وتنص المبادرة على الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة بما في ذلك الجولان السوري وحتى خط الرابع من يونيو/حزيران 1967، والأراضي التي لا تزال محتلة في جنوب لبنان، والتوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتفق عليه وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194.
إضافة إلى قبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من يونيو/حزيران 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتكون عاصمتها القدس الشرقية، واعتبار النزاع العربي الإسرائيلي منتهيا، والدخول في اتفاقية سلام بينها وبين (إسرائيل) مع تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة، في مقابل إنشاء علاقات طبيعية مع (تل أبيب) في إطار هذا السلام الشامل. وضمان رفض كل أشكال التوطين الفلسطيني الذي يتنافى والوضع الخاص في البلدان العربية المضيفة.
هذه البنود لاقت رفضا من (اسرائيل) في حين طالبت اميركا الدول العربية بإدخال تعديلات عدة على المبادرة وتحديداً في الولاية الأولى للرئيس باراك أوباما وكان الحديث يدور عن تعديل أربعة بنود أبرزها:
أولاً: عدم ذكر القرار (194) في الفقرة "ب" من البند الثاني في المبادرة الذي يحدِّد المطالب العربية، واستبدال مطلب "الحل العادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين" بمطلب "حل واقعي ومتفق عليه بالمفاوضات".
ثانياً: شطب البند الرابع من المبادرة الذي ينص على "ضمان رفض كل أشكال التوطين الفلسطيني، الذي يتنافى والوضع الخاص في البلدان العربية المضيفة".
ثالثاً: تعديل الفقرة "ج" من البند الثاني في المبادرة، التي تؤكد على شرط قبول "إسرائيل" بـ "قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من حزيران (يونيو) 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة وتكون عاصمتها القدس الشرقية"، والمغزى من وراء هذا التعديل هو تعويم الفقرة بحيث لا تُذكر حدود الدولة الفلسطينية المستقلة، أي الاكتفاء بصيغة "قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة".
رابعاً: عدم الربط بين التسوية الشاملة والتطبيع، واستبدال ذلك بتطبيع يرافق تقدم الخطوات السياسية، ومبادرة الدول العربية والاسلامية بخطوات تطبيعيه سياسية واقتصادية كمبادرات "حسن نية".
وفي حال جرت هذه التعديلات فان المبادرة تكون قد أفرغت القضية الفلسطينية من محتواها، وجردت الفلسطينيين من كامل حقوقهم التي أبرزها حق العودة، وقيام دولة على حدود 67، وتحولت لمبادرة عربية بنكهة اسرائيلية لاسترضائها كي تقبل بها.
لكن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن التحولات التي جرت في (اسرائيل) بعد اتفاق أوسلو تؤكد أنها لم تعد معنية أو مستعدة لتقديم أي تنازل مهما كان للفلسطينيين، والحكومات الإسرائيلية التي باتت أكثر تشدداً تتجه نحو احداث تغييرات على الأرض في الواقع الجغرافي والديمغرافي بما يمنع قيام أي كيان فلسطيني سواء بمفاوضات أو دونها.