هناك على ربوة عالية وقف أحمد مستندا على عكازين رافعا رأسه إلى السماء ناظرا الى الأفق البعيد وكأنه يتنظر قادما اليه من بعيد، راقبته عن بعد دون أن يشعر بي، وأخذ يتمتم بكلام لم أفهمه لبعد المسافة، وهو كذلك إذا بدمعة من مقلتيه تسيل على وجنتيه، ثم هبط وأخذ يسير بعكازيه وهو يقول لا حول ولا قوة إلا بالله وتنهّد تنهيدة هزت مشاعر من لديه مشاعر إنسانية ويفهم حجم الالم الذي هو عليه أحمد.
أحمد هو اسم مستعار لشخص أعرفه حق المعرفة، لم يكن من هواة اللعب أو صاحب هوى أو ممن يضيعون أوقاتهم فيما لا يفيد، كنت وأنا جاره أعرف وجهته وهواه، كان يسرق نفسه في ساعات الليل بعيد عن الأعين ولم يكن يعرف أحد وجهته كان يتخفى وهو يحمل حقيبته السوداء ليبقى عمله خالصا لله ومن أجل الله وحبا للوطن والارض على أمل أن يساهم ولو باليسير في طرد المحتل.
أحمد الذي أذكر كان رجلا من رجال المقاومة في قطاع غزة، يعمل في النهار من أجل قوت أهله زوجته وأولاده وفي الليل يقف مرابطا على الثغور حاميا لدينه ووطنه محاولا صد أي عدوان على أرضه ووطنه وكان عنصرا فاعلا الى جانب رباطه في وحدة المدفعية التي أذاقت الاحتلال مرا عندما كان يصب جام غضبه على أهله في غزة وحيثما تواجدوا.
انطلق احمد في يوم غاضب وأخذ ورفاقه يقصفون جنود الاحتلال ومستوطناته حتى رصدته طائرة ملعونة حامت حولهم وأطلقت قذائف حقدها الدفين، فاستشهد من استشهد وأصيب حبيبنا أحمد إصابات بالغة فقد على إثرها ساقه وإحدى عينيه وقدّر الله له أن يبقى على قيد الحياة يحمل همين هم وجود الاحتلال وجرائمه وهم إصابته، ولكن احتسب أمره إلى الله، وأعاد تأهيل نفسه ليمارس حياة شبه طبيعية كما يحيى الناس.
أحمد مثله مثل الآلاف من الشباب الفلسطيني ممن أصيبوا خلال الاعتداءات الصهيونية المتكررة، لم يكن أحمد وإخوانه من الجرحى يلهون بحياتهم بل كانوا مدافعين عن شعبهم وارضهم وقدموا من أجل الدفاع عنهم راحتهم وصحتهم وإخوانهم من الشهداء الذين لقوا الله مقبلين غير مدبرين وعرفوا مكانتهم من الجنة مع أول قطرة دم انسكبت من دمائهم، أما الجرحى فهم اليوم يعيشون بجراهم صابرين محتسبين أمرهم إلى الله، آملين أن يقف إلى جوارهم من وقفوا هم يوما مدافعين عنهم غير مبالين بما سيحدث لهم لأنهم بايعوا الله على الشهادة في سبيله ودفاعا عن الأهل والوطن فكان نصيبهم الإصابة والاعاقة.
هؤلاء الجرحى لا يريدون نظرات العطف والشفقة، فهم ليسوا بحاجة للعطف أو المنة فلا يزال لديهم بقية من حياة، وعندهم كرامة وعزة نفس عالية، ولكنهم بحاجة الى من يقف الى جوارهم يمكّنهم من الحياة بكرامة ويوفر لهم ما يساعدهم على التأهيل والشفاء التام من جروحهم، هؤلاء اليوم هم بحاجة لنا كما كنا بحاجة لهم، فلا نبخل عليهم ونسد شيئا من الدَيْن علينا لهم، ومهما فعلنا أو قدمنا لن نوفي لهم حقهم علينا، فما نقدم نحن مهما كثر فهو لا يساوي ظفر واحد أو عقدة أصبع فقدها، فكيف بمن فقد ساقيه أو ساقيه وذراعيه، أو حبيبتيه، ومن بات يعيش بإعاقته الجسدية ولكن بروح عالية ومعنويات قوية تزداد لو شعر كل واحد منهم أن المجتمع كله بجواره يكافئه عما قدمه بروح طيبة ونفس رضية.
نحن مدعوون أن نقف إلى جوارهم نسدد لهم جزءا من الدين الذي في رقابنا لهم، فهم من ضحى بالغالي فهل نبخل عليهم بالقليل حتى ولو كثر؟