ألح عليه بطلبه مفتاح السيارة "يابا ضروري عرس صاحبي"، وحين أحكم قبضته على المفتاح سأله والده "وانت يا محمد متى راح نفرح فيك عريس"، دون تردد التفت وأهداه ابتسامة انتهت بإغلاق الباب:" بكرا ان شاء الله".
لم يأخذ والد الشهيد محمد أبو خلف الإجابة على محمل الجد من ذاك الصغير الذي كبر على حب الحياة والفرح وصولًا لطموحه بإيجاد رفيقة تتزين القدس فرحًا بعرسهما.
صباح اليوم الثاني زف محمد عريسًا على بلاط باب العامود، وكأنه كان معنيًا بكلمة "بكرا" حيث أوفى بوعده لوالده الذي فهم قصده متأخرًا!
باب العامود!
باب العامود ذاك المكان الذي لم تستطع والدة محمد أن تفارق بلاطه طيلة فترة احتجازه داخل ثلاجات الاحتلال لسبعة أشهر، تزوره بين الحين والآخر عل طيف ابنها البكر يزورها أو تصلها رائحة عطره الذي كانت تميزه.
خمسون رصاصة أو يزيد صوبت تجاه جسد المقدسي محمد رغم أنه لم يعد يشكل خطرًا على جنود الاحتلال الذين تسابقت فوهات بنادقهم تجاهه لينتفض جسده في مشهد يعكس وحشية الاحتلال وارتعاشه من ثائر في العقد الثاني من عمره بعد أن خرجت الروح.
ارتعاش جنود الاحتلال وخوفهم من محمد لم تنته حين لفظ نفسه الأخير في الـ 19 من فبراير الماضي، بعد تنفيذه عملية طعن لجنديين إسرائيليين، بل استمر مشهد الخوف من جثمانه حين تم تسليمه فجر الثلاثاء الماضي بعد فرض تطويق أمني على القدس، بعد اغلاق قوات الاحتلال جميع الطرق المؤدية إلى مقبرة المجاهدين (مقبرة باب الساهرة)، ووضعت السواتر الحديدية عند مداخله منعًا لدخول المواطنين والمركبات.
مؤلم ذلك المشهد على قلب الأم بعد أن تابعت جسد بكرها يرش بالرصاص على الهواء مباشرة، حيث كان طاقم لقناة الجزيرة يعد تقريرًا هناك فأفرغوا رشاشاتهم في جسده أمام الملايين.
ابن بلدة كفر عقب شمال القدس استقبلته والدته بقلادة على صدرها تحمل صورته، واكليل ورد توشحت به، سرعان ما لفته حول عنقه لحظة وصوله.
رغم الصقيع حياة!
"الحمد لله " رافقتها ابتسامة رسمت باتزان على محيا أم الشهيد، واستمر لسانها لاهجًا بالحمد لله لعودة جثمان محمد، التي وصفت جسده "بالطري" رغم صقيع ثلاجة الاحتلال التي حولته الى قالب ثلجي مع جثامين الشهداء المحتجزة.
حين قتلوه هزت الرصاصات جسده وبعودة الجثمان ارتعشوا وطوقوا القدس!
200 يوم أحصتها والدة الشهيد محمد بدقة، لم يغب "الحنون" عن بالها وشقيقيه وأختيه، فتلك المساحة التي تركها محمد في القلب لن يتمكن أحدهم أن يملأها كما أوضحت.
الوالد الذي وصلنا صوته عبر الهاتف برباطة جأشه وفرحه بعودة محمد الى تراب القدس مكرمًا قال:" الكل بحب محمد وربنا اختاره وكرمنا بشهادته".
حديثنا الذي انقطع تارة لاستقبال والد محمد التهاني وتارة أخرى حين عاد بذاكرته الى الوراء، "شو بدي أحكيلك عن محمد؟" رددها والده الذي بدأ الإجابة:" طموح لأبعد حد" ولم ينته بـ "خلوق".
محمد الذي استطاع أن يحدد وجهته وطريقه الذي سلكها بالعمل على شاحنة لنقل البضائع وقطع غيار السيارات، لم تظهر عليه أي علامات أو نية لتنفيذ عملية طعن وفق والده، الا أن مشهد الإعدام بدم بارد على الحواجز الإسرائيلية جعله يسلك طريقًا آخر ينتهي بدار السلام.
"يابا شوف خواتنا بالأقصى كيف بنهانوا" كان آخر ما ردده محمد منذ اندلاع انتفاضة القدس، لاسيما استياؤه المتكرر من مشهد الاعتداء على المرابطات المقدسيات والمبعدات منهن.
الشاب المقدسي حاول تفريغ غضبه بطعن أحد الجنود ردًا على اعدام الفتيات على الحواجز والتي كان آخرها آنذاك للطفلة ياسمين الزرو عند حاجز مئة وستون الإسرائيلي القريب من الحرم الإبراهيمي في الخليل.
بين "باب العامود" و"مقبرة الساهرة" ستتناوب والدة الشهيد محمد زيارتها للمكانين فطيف محمد لن يغيب عن أحدهما.