منتصف العام 2015 أعلنت حكومة رامي الحمد لله خطة تقشف بهدف تغطية الفجوة المالية في الموازنة العامة، وذلك بعد أن بلغ الدين العام للسلطة الفلسطينية مع نهاية العام الماضي ما يقارب عشرة مليارات شيكل.
الإجراءات التقشفية التي قالت الحكومة إنها تنوي تنفيذها بقيت حبراً على ورق إلا من بعض الخطوات التي لم تطل سوى صغار الموظفين في القطاع العام، وتخفيض بعض المصروفات التي كانت توجه إلى الشرائح الكادحة في المجتمع الفلسطيني.
وأمام إجراءات التقشف كان لافتاً التقرير الذي أصدره ائتلاف أمان للنزاهة والشفافية الذي تحدث عن التعيينات في الفئات العليا في السلطة الفلسطينية والتي تجري على أساس سياسي وعلاقات عائلية.
التقرير تحدث عن الاستمرار في وجود خروقات على صعيد آليات التعيين في بعض الوظائف العليا، وعدم استكمالها لإعداد بطاقات الوصف الوظيفي، بالإضافة إلى استمرار التعيينات بمراسيم رئاسية خلافًا للمادة 69 من القانون الأساسي المعدل، والذي ينص على أن إنشاء أو إلغاء الهيئات والمؤسسات والسلطات أو ما في حكمها وتعيين رؤساء الهيئات والمؤسسات المشار إليها من اختصاص مجلس الوزراء وليس الرئيس.
السلطة لم تحدد سقفًا أعلى للرواتب وحتى القانون الذي حدد رواتب الوظائف العليا لم تلتزم به
"الرسالة" حاولت الوصول لأرقام دقيقة حول موظفي الفئات العليا والمبالغ التي تكلفها للموازنة العامة خاصة أن هذه الفئة تتلقى رواتب مرتفعة إلى جانب امتيازات كبيرة غير معلنة تثقل كاهل الخزينة الفلسطينية.
استنزاف الموازنة
معدة التحقيق حصلت على أرقام كبيرة تكشف عن الرواتب والامتيازات التي يتلقاها كبار الموظفين في الشق "المدني والعسكري" هذا عدا عن المؤسسات العامة غير الوزارية، والتي تعمل خارج إطار القانون، وتتلقى رواتب خيالية كونها غير محددة بقانون.
وبلغة الأرقام فإن عدد موظفي السلطة الفلسطينية حتى نهاية العام 2015 بلغ 155 ألف موظف مدني وعسكري، منهم قرابة 15.500 من الفئة العليا، في "الشق المدني مدير عام وما فوق" وفي الشق العسكري "رائد فما فوق".
ويتلقى هؤلاء رواتب مرتفعة يبلغ متوسطها 8000 شيكل حوالي "2000" دولار، وبحسبة بسيطة فإن متوسط الرواتب فقط التي تتلقاها الفئة العليا تبلغ شهرياً 31 مليون دولار، أي أنها تستنزف من موازنة السلطة سنوياً تقريباً 372 مليون دولار، ما يمثل 19% من قيمة فاتورة الرواتب السنوية البالغة 2 مليار دولار.
وربما تعتبر هذه النسبة مقبولة فيما لو تحدثنا عن الرواتب فقط، لكن الإشكالية الحقيقية تكمن في الامتيازات التي تحصل عليها هذه الفئات والتي تستنزف أضعاف هذا المبلغ.
ويتلقى موظفو هذه الفئة امتيازات إضافة إلى مكافأة شهرية تتراوح من 2000 إلى 30000 $، وتتمثل الامتيازات بالتالي: 1000 $ فاتورتي هاتف وجوال شهرياً، 2000 $ مهمات سفر، 1000$ مصروفات سيارة، و2000 $ مصروفات مكتب.
تعيين رؤساء مؤسسات برتبة وزير لا يخضع للكفاءة أو القانون بقدر ما يخضع لمعيار الولاء
ويمكن اعتبار أن متوسط الامتيازات "الراتب+الامتيازات" التي يحصل عليها كل موظف من هذه الفئة شهرياً البالغ عددها 15.500 موظف يقدر بحوالي 9 ألاف دولار ما يعني أن فاتورة الامتيازات تصل 139 مليون دولار شهرياً، ومجموعها مليار و670 مليون دولار سنوياً وذلك من قيمة الموازنة العامة التي تبلغ 5.018 مليار دولار.
وبالتالي فإن نسبة ما تستنزفه هذه الفئة من الموازنة العامة تبلغ 33.3% أي ثلث الموازنة تذهب للفئة العليا، ما بين رواتب وامتيازات.
وللتوضيح أكثر فإن نسبة موظفي الفئة العليا تقدر بحوالي 10% من عدد الموظفين في القطاع العام "155 ألف موظف"، وتستنزف وحدها نصف الفاتورة المخصصة للرواتب التي تقدر بــ60% من الموازنة العامة.
وفي هذا السياق، يشير مستشار مجلس إدارة ائتلاف أمان لشؤون مكافحة الفساد عزمي الشعيبي إلى عدم وضوح آليات احتساب الراتب والامتيازات؛ فضلًا عن عدم وجود آلية رسمية للرقابة على الالتزام بالشروط المذكورة كوجود لجنة عليا للرقابة على الوظائف.
واعتبر الشعيبي أن ذلك ساهم في خلق صراعات بين الأشخاص أنفسهم على هذه المواقع ما أوجد حالة من الشخصنة التي وصفها بالآفة التي تزيد من حدة الصراع على السلطة، مؤكداً وجود خروقات في آليات التعيين في شغل الوظائف العليا وعدم استكمال إعداد شروط شغل تلك الوظائف وإعلان المؤهلات العلمية والخبرات العملية المطلوبة لشاغليها.
20 رتبة وزير
ولا يتوقف حجم الإسراف في التعيينات والامتيازات عند هذا الحد، وإنما رصدت "الرسالة" تعيين أكثر من 20 من موظفي الفئة العليا على الأقل برتبة وزير ما زالوا على رأس عملهم حالياً، وذلك عدا عن الوزراء الذين يحملون حقائب وزارية.
وتشمل تلك التكليفات التي تمكنت "الرسالة" من معرفتها "رئيس ديوان الرقابة المالية والإدارية-رئيس سلطة الأراضي-رئيس سلطة الطيران-رئيس سلطة المياه-رئيس سلطة الطاقة-الجهاز المركزي للإحصاء-ديوان الفتوى والتشريع-هيئة الإذاعة والتلفزيون-هيئة الشئون المدنية-هيئة شئون الأسرى والمحررين-هيئة الجدار ومقاومة الاستيطان-ديوان الموظفين العام-إلى جانب 8 من أصل 16 محافظًا تم تعيينهم بمرسوم رئاسي".
ومن المعروف أن موظفي الفئة العليا ورؤساء المؤسسات العامة غير الوزارية والذين يعينون برتبة وزير لهم حقوق وامتيازات الوزير الحالية واللاحقة والتي أقرها القانون، حيث يحصل الوزير على فاتورتي جوال وهاتف ثابت، و15.000 دولار بدل تحسين معيشة تصرف لمرة واحدة، وذلك إلى جانب راتبه، وسيارة خاصة ومرافقين ومهمات بدل سفر ومصاريف تشغيلية.
كما ينص القانون على أنه عندما يغادر الوزير الحكومة يتقاضى 80% من مكافأته في حال قضى أكثر من أربع سنوات بالوزارة، وفي حال كان أقل من ذلك يصرف له 50%، وذلك وفقاً لقانون مكافآت ورواتب أعضاء الحكومة رقم 11 لسنة 2004، الذي أقر في عهد الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
الناشط الحقوقي صلاح عبد العاطي أكد على أن السلطة لم تحترم قانون الخدمة المدنية في مسألة الوظائف، وقال: "هناك تعيينات وترقيات في الوظائف العليا أساسها الواسطة والانتماء السياسي والاعتبارات القبلية، بعيداً عن القانون".
وأضاف "وضعنا الفلسطيني يحتاج إلى ميزانية تقشفية لكن حتى الآن لم يتم إقرار موازنة تراعي تعزيز صمود المواطنين، وبالتالي كلفة فاتورة الرواتب في ارتفاع مستمر الأمر الذي يضعف قدرة السلطة على تقديم واجباتها تجاه المواطنين، لذلك مطلوب سياسة مالية وموازنة شفافة، وهذا غير ممكن في ظل الانقسام وغياب الجهات الرقابية".
السلطة لم تحدد سقفًا أعلى للرواتب وحتى القانون الذي حدد رواتب الوظائف العليا لم تلتزم به، وذلك من خلال الامتيازات والبدلات المختلفة التي تتطلب التدقيق والمراقبة لضمان شفافية صرف المال العام، بحسب عبد العاطي.
وحدد القانون الرواتب للفئات العليا لكنه لم يتطرق لامتيازات هذه الفئات ما فتح الباب أمام استنزافها للأموال العامة، وهنا يؤكد عبد العاطي أن كل الامتيازات يجب أن تكون معلنة وواضحة ومتناسبة مع قيمة الأداء، مطالباً أن تكون فاتورة الرواتب تتلاءم مع احتياجات المواطنين.
ودعا السلطة إلى ضرورة أن تراعي الموازنة احترام حق المواطنين والموظفين في تلقي رواتب تكفي أسرهم، وتكييف جل الموارد لخدمة المواطنين بدلاً من الفئات العليا.
الامتيازات دون قانون
ويكمن الخلل الأكبر في الهيئات والمؤسسات العامة التي تعمل دون قانون واضح يحدد الرواتب والامتيازات التي يتلقاها العاملون بها.
ونعطي هنا مثالاً "سلطة النقد الفلسطينية والتي نص قانونها رقم 2 لسنة 1997 على أن راتب محافظ سلطة النقد ونائبه يحدد بقرار من رئيس السلطة الوطنية، إلا أن هذا القرار لم يصدر ولم ينشر حتى تاريخه، ولم يرد في قانون سلطة النقد نص على استقلاليتها المالية والإدارية ومع ذلك يتقاضى محافظ سلطة النقد راتباً أساسياً شهرياً (10.000 دولار) ونفس الراتب أيضًا يتقاضاه مدير عام هيئة سوق رأس المال.
وقد فتح غياب القانون الناظم لعمل هذه المؤسسات الباب أمام الإسراف في الرواتب التي يكون بعضها خياليًا مثل صندوق الاستثمار الفلسطيني الذي يتلقى رئيسه محمد مصطفى راتباً أساسياً شهرياً 35 ألف دولار، كما يتلقى رئيس هيئة مكافحة الفساد راتبًا أساسيًا 10 ألاف دولار.
التعيينات في سلك النيابة والقضاء تحديداً باتت تشهد محاباة وفساد، حيث إن معظم من يعينون هم من أبناء المتنفذين مثل أبناء القضاة وقادة الأجهزة الأمنية ووكلاء النيابة
النائب الثاني لرئيس المجلس التشريعي د. حسن خريشة أكد على ضرورة وضع خطة لتخفيض رواتب الفئات العليا بمعنى أن الوزراء والوكلاء ومن في حكمهم يجب أن يتم تخفيض رواتبهم ومصاريفهم التي تذهب لمكاتبهم وجيش المرافقين العاملين لديهم والتي تستنزف أموالًا طائلة من الحكومة.
وبين أن سياسة التقشف لدى الحكومة موسمية والحديث عنها له أهداف وغايات ورسائل للمانحين، ويجب أن يكون هناك عدل اجتماعي بين كبار وصغار الموظفين لتضييق الهوة بينهم وليس توسيعها.
واعتبر خريشة أن تعيين رؤساء مؤسسات برتبة وزير لا يخضع للكفاءة أو القانون بقدر ما يخضع لمعيار الولاء، وبالتالي فإن الرئيس عندما يريد مكافأة شخص يمنحه رتبة الوزير، وبالتالي تصبح الرواتب مختلفة حتى بين الفئة العليا نفسها، قائلاً: "إن بعض أمناء عامون الفصائل طلبوا من الرئيس أن يوقع لهم على رتبة وزير ليضمنوا استمرار تلقي رواتب مرتفعة".
وفيما يتعلق بتحديد سقف أعلى للرواتب قال خريشة: "السلطة حددت الحد الأدنى للرواتب، وهو 1700 شيكل ولم تلتزم به حتى الآن، لكن الحد الأعلى للرواتب بقي مفتوحاً"، لافتاً إلى أن من يعمل في مؤسسات المجتمع المدني NGOs، وهي جزء من النظام السياسي يتلقون رواتب خيالية، وهناك جهات أخرى مثل صندوق الاستثمار والجهاز القضائي يتقاضون رواتب مرتفعة جداً، داعياً إلى تخفيض رواتب الفئة العليا إلى قرابة 25% على الأقل لتقليل الفجوة بين الفئات العليا والدنيا.
وأوضح خريشة أن "التعيينات في سلك النيابة والقضاء تحديداً باتت تشهد محاباة وفساد، حيث أن معظم من يعينون هم من أبناء المتنفذين مثل أبناء القضاة أو وكلاء النيابة".
ولفت إلى أنه حتى فترة قريبة كان هناك عزوف عن دراسة القانون والمحاماة لكن حالياً وبسبب أن راتب القاضي أو وكيل النيابة مرتفع جداً بات الناس وتحديدًا المتنفذين يدفعون أبنائهم إلى دراسة القانون، وفور التخرج يعينه والده في النيابة أو القضاء، وهؤلاء بحسب قانون الخدمة المدنية يتلقون علاوة مضاعفة تقدر بحوالي 250%.
وشدد على ضرورة أن تخضع عملية التعيينات للرقابة لأن معظم من يعين في سلك النيابة والقضاء هم من المتنفذين والمقربين من الرئيس ومن حوله، مؤكداً على أن هناك مصروفات ما يسمى بالقيادة الفلسطينية ممثلة باللجنتين التنفيذية والمركزية وأمناء عامون الفصائل، ومصروفاتها ممثلة في المنح والامتيازات الأخرى إضافة إلى الرواتب المرتفعة، إلى جانب مصاريف السفر والمهمات والسيارات.
الحرمان لغزة
قرابة 28 ألف موظف تم تعيينهم في الضفة بعد العام 2007 فيما حرم أبناء غزة من الفرص الوظيفية، إلا أن معلومات مؤكدة حصلت عليها "الرسالة" من مصادرها الخاصة تؤكد أنه جرى تعيين عدد من أبناء القطاع كموظفي سلطة ويتلقون رواتبهم من وزارة المالية في رام الله، وذلك إما لوجود واسطة قوية لهم أو قربهم من شخصيات مقربة من الرئيس عباس، أو بعض التعيينات التي أقرها الرئيس لشراء ولاءات البعض في غزة.
قرابة 28 ألف موظف تم تعيينهم في الضفة بعد العام 2007 فيما حرم أبناء غزة من الفرص الوظيفية
الخبير الاقتصادي د. عمر شعبان قال: "إن السلطة الفلسطينية تتحدث باستمرار عن موازنة تقشفية لكن فعلياً فإن المصروفات تزداد وتتضخم، من خلال الصرف على بنود غير ضرورية، كما أنها عملت على تضخيم الموازنة دون مبرر ما جعلها تعتمد بشكل كبير على المنح والمساعدات".
ولفت إلى أن السلطة اتخذت بعض الإجراءات لتقليل المصروفات من خلال قطع بدل المواصلات وعدم دفع بعض المكافآت لصغار الموظفين في وقت يتم تضخيم مصروفات رأس السلطة، مطالباً السلطة بالعمل على تخفيض فاتورة الرواتب من خلال تخفيض رواتب الفئة العليا وامتيازاتها، وتخفيض قيمة الموازنة وذلك من خلال إجراءات تقشفية حقيقية.
بدوره، اعتبر المحلل الاقتصادي نهاد نشوان أنه منذ قدوم السلطة حتى الآن تقتصر التعيينات والهيئات التابعة للسلطة على أصحاب الواسطة والمحسوبية، مبيناً أن كثيرًا من الوظائف في الفئات العليا لا تطرح أمام المواطنين من خلال الإعلان عن الحاجة إلى وظيفة كما ينص القانون، مؤكداً على أن هذه النفقات تزيد من عبء الموازنة كونها تكلف السلطة مبالغ طائلة خاصة أن معظم الفئات العليا يتلقون رواتب لا تقل عن 2000 دولار.
وأوضح أن أبرز مظاهر الفساد في التعيين بالجهاز القضائي والتنفيذي المحكومين بالوساطات والمحسوبية أن يكون ابن القاضي قاضي وابن الضابط ضابط، رغم أنها تجربة أثبتت فشلها، ومضى يقول: "تفاجأنا في الفترة الأخيرة من تعيين وكلاء نيابة من أبناء كبار الضباط في الأجهزة الأمنية، وذلك بعد تخرجهم مباشرة، حيث منحوا مناصب عليا، وهو ما تمرست عليه السلطة منذ قدومها حتى الآن".
وأكد نشوان على أنه منذ بداية الانقسام حتى الآن تم إجراء تعيين وظيفي لـــ 28 ألف شخص كلها في الضفة الغربية وحرم قطاع غزة منها، فيتم تحويل الموظفين في غزة للتأمين والمعاشات دون تعيين بديل عنهم، مشيراً إلى أن السلطة تتحدث عن عجز في الموازنة يزيد عن المليار دولار وفي نفس الوقت نشهد تراكم وفساد وظيفي يزيد من عبء الموازنة.
وأمام المعطيات الواردة في التحقيق يجب الإقرار أن الأرقام التقديرية التي توصلت إليها "الرسالة" بناء على تقارير مالية وبيانات صادرة عن وزارة المالية في رام الله وبعض الجهات الرقابية المعنية، ربما تكون أقل بكثير من الأرقام الحقيقية والتكاليف الفعلية لهذه الفئة من كبار الموظفين، خاصة أن السلطة تحجب هذه المعلومات عن الجميع، لذا يمكننا القول إن ما خفي كان أعظم.