مقال: أنفاق غزة، عندما يتدفق الموت في شرايين الحياة

بقلم إيمان المتسهل

وسط حديث كثير يدور هنا وهناك عن نوايا مصرية لتخفيف الحصار عن قطاع غزة و وعود كثيرة كانت تلوح في الأفق عن فتح معبر رفح الحدودي بشكل دوري كل شهر، كان أبرزها خاصة حديث بعض من نواب فتح المشاركين في مؤتمري عين السخنة بمصر الشهر المنصرم، كان من بينها حديث النائب أشرف جمعة عن مساعِ ووعودِ مصرية بتخفيف معاناة أبناء شعب غزة عبر تسهيل سفرهم من المعبر وفتحه بشكل منتظم، وسط كلّ هذا الحديث والتوقعات والوعود الناعمة والأحلام الوردية، حلّت فاجعة استشهاد أربعة رجال من غزة يعملون في الأنفاق لتدحض كل التوقعات بتحسين العلاقة بين مصر وغزة وتخفيف الحصار عنها، على الأقلّ في نظر المتابعين من الشعب الذي سئم كثرة الوعود وقلة الانجازات، فمؤتمرات "العين السخنة" قد فشلت في تذويب ركام الجليد المتراكم بين غزة والنظام المصري.

فقد قامت طواقم الدفاع المدني الفلسطينية يوم الأحد 4 ديسمبر من انتشال جثث أربعة رجال يعملون في الأنفاق قضوا نحبهم بحثا عن لقمة العيش، حيث كان الرجال الأربعة يعملون في بناء وترميم بعض الأنفاق التجارية في رفح الحدودية، استشهدوا بعد انقطاع تامّ حول مصيرهم منذ ثمانية أيام عقب إغراق الجيش المصري بشكل مفاجئ لأنفاق كانوا يعملون بداخلها، حيث حاصرت المياة العاتية 20 عاملا استطاع 16 عاملا منهم النجاة، بينما تخلّف الأربعة المتبقين بعد أن تعسّر عليهم الخروج من الأنفاق بسبب قوة اندفاع المياه واضطرارهم لقطع التيار الكهربائي مخافة تعرضهم لصعق كهربائي مما جعلهم يتلمّسون الخروج لبرّ الأمان من باطن الأرض وسط الظلام الدامس. نفس اليوم شهد ارتقاء شهيد آخر عبر انهيار نفق كان يعمل به، لكن الأسباب تختلف وإن كان الموت واحد. فاستشهاد مجاهد عبر انهيار نفق عليه يُعتبر حدثا عرضيا، لكن أن يكون سبب الوفاة هو تعمّد إغراق الجيش المصري بالمياه لأنفاق حدودية تحتوي بداخلها على عمّال يحفرون الأرض بأظافرهم لإنشاء شرايين حياة تمدّ أهلهم وذويهم بالغذاء والكساء والدواء والوقود فهذا ما يثير الشجن ويعمق الحزن.

فإن تحدثنا عن ظلم ذوي القربى، فلنظام الشقيقة الكبرى أكبر نصيب. فمنذ وقوع الإنقلاب العسكري في مصر في شهر يوليو 2013 بوقت وجيز، شنّ الجيش المصري حملة شعواء على أنفاق غزة حيث دمّر أغلبها وشرع فيما بعد بضخّ المياه فيها لتدميرها بشكل تام، وتزامنت هذه الحملة بحملة إعلامية شيطنت قطاع غزة واتهمت حركة المقاومة حماس بإنشاء الأنفاق لإلحاق الضرر بأمن مصر، ورغم أن حماس أكدت مرارا وتكرارا أن الأنفاق جُعلت لإمداد القطاع بمستلزمات الحياة وبعض البضائع التي يُمنع توريدها من الكيان إلاّ أن نظام الشقيقة الكبرى مكفولا بإعلامه النافذ اتهم الحركة بأن لها في الأنفاق مآرب أخرى، ليتهمها حتى بتهريب الترامادول والمخدرات. ومما زاد في تفاقم الأوضاع، كان قرار النظام مصر إنشاء خندق مائي على طول الشريط الحدودي بين مصر وغزة لضخّه بمياه البحر المالحة من أجل تدمير جميع الأنفاق والحيلولة دون بناء أنفاق جديدة، غير مبالٍ بمخاطر المشروع على البنية التحتية وهلاك التربة والغرس والزرع، وهي خطوة خطيرة تؤكد طبيعة التعاطي الأمني الظّالم لنظام الشقيقة الكبرى مع القطاع ،مقابل تطور كبير وغير مسبوق في العلاقات بينها وبين الكيان الصهيوني، وصفها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ب"العلاقات الدافئة". والواقع أن دفء هذه العلاقات لا لُبس فيه ويظهر جليّا ،غير بعيد عن موضوع الحدود والمعابر، في معبر طابا الحدودي بين مصر وإسرائيل، فالمعبر يعمل بشكل منتظم ويقدم خدمات وتسهيلات للمسافرين الصهاينة عكس ما نراه من ضروب المآسي وأصناف المعاناة التي يعيشها المسافرون الفلسطينيون في غزة عند فتح معبر رفح مرة بعد أشهر، وقد يتوقف عمل المعبر في أي وقت بسبب خلل قد يطرأ في نظام الحواسيب.

حادثة إغراق الجيش المصري للأنفاق والتي أدّت إلى استشهاد أربعة رجال غرقا واختناقا في باطن الأرض ليست حدثا عرضيا بمعزل عن سياسة التعاطي الأمني لنظام مصر مع قطاع غزة، فهذه الحادثة تعيد بالأذهان إلى أحداث أخرى أليمة ارتكبها الجيش المصري تجاه الفلسطينيين في قطاع غزة، فقبل حوالي عام، وفي شهر ديسمبر من سنة 2015، أقدم الجيش المصري على إعدام شاب فلسطيني من قطاع غزة يعاني من اضطرابات نفسية يدعى "إسحاق حسان" وذلك عند اقترابه من الحدود المصرية. عملية الإعدام كانت متعمّدة وبشعة أكدتها فيديوات موثقة، كما أقدم الجيش المصري قبل ذلك أيضًا على قتل طفل فلسطيني "فراس مقداد" أثناء عمله على قارب الصيد في بحر رفح وذلك على بعد أكثر من 500 متر من الحدود المصرية، ممّا يثير الإستغراب ويبعث في النفوس الريبة حول تغير المعادلات وانقلاب البديهيات لدى الجيش المصري في طبيعة معاملته السلمية مع العدو الصهيوني وظلمه الجائر للجار الجُنب.

البث المباشر