ازدحام المارة وتكدس البضائع لا يمنعك من تأمل ذاك التاريخ القديم المنقوش على حجارة سوق القيسارية وسط مدينة غزة.
الحجارة القديمة التي تعلو المحلات المنتشرة على طول السوق تمتد جذورها إلى قرون خلت، لكنها بقيت قائمة شاهدة على تاريخ هذه المدينة.
ويشكل سوق القيسارية جزءا معماريا ضمن وحدة معمارية متكاملة، تتألف من الرواق الجنوبي للجامع العمري الكبير، والذي أنشأه السلطان محمد بن قلاوون عام 1329م، كي يفتح باب منه على وسط سوق القيسارية، وتلك فلسفة عمرانية تجارية، بحسب وزارة السياحة والأثار.
القيسارية التي أنشئت في العهد المملوكي تعود تسميتها لكلمة (قيصر)، نسبة إلى مؤسسها الإمبراطور أغسطس قيصر، وفي العهد الأموي ظهرت الأسواق المغطاة في القيروان، والفسطاط وهي (القاهرة)، وقد عُرفت في العصر العباسي، وأطلق عليها الخان الصغير الذي يحتوي معامل ودكاكين، وتضم ورشات حرفية صغيرة.
وبنسق معماري وهندسي أنشئ السوق ليلائم الأجواء وظروف المناخ، فسقفه المقبب والمعقود بعقود متقاطعة، تمتد من الشرق إلى الغرب، حيث تأتي من الشرق أشعة الشمس، ومن الغرب يأتي الهواء اللطيف، ولها من الأعلى فتحات للإضاءة والتهوية، وفي وسطها يوجد قبو مثمن الشكل يربط بينها وبين خان الزيت الذي كان قائماً قبل اندثاره، ويوجد مكانه في يومنا هذا (عمارة أبو رحمة).
كما تتفرع من المبنى الرئيسي دكاكين صغيرة تمتد في عمق البناء التاريخي على الجانبين ولا يتجاوز عمق الواحدة منها أكثر من مترين.
ورغم اندثار أجزاء كبيرة من الأثار التاريخية التي كانت تملأ منطقة القيسارية التي تعتبر قلب مدينة غزة القديمة إلا أن سوق القيسارية والتي تشتهر الآن بسوق الذهب ما زالت قبلة أهالي المدينة.
وتربط منطقة القيسارية بين مجموعة من الأسواق العريقة والمركزية في مدينة غزة، فهي تتوسط سوق الزاوية الذي يعتبر امتدادا لها، ومنطقة حمام السمرة.
هيام البيطار رئيس قسم المواقع الأثرية في وزارة السياحة والآثار بغزة، تقول سوق القيسارية في غزة يعود إنشاؤها إلى العهد المملوكي، ولكن لا يوجد تاريخ محدد لهذا التوقيت، وذلك لعدم وجود نص تأسيسي يؤرخ السنة الفعلية التي أنشئت فيها القيسارية، وهي القيسارية الوحيدة المتبقية في غزة."
وتوضح البيطار أن القيسارية هي أحد أشكال المنشآت التجارية الحرفية الصناعية، وقد عرفت في العهد الروماني وذلك في عهد الإمبراطور أغسطس قيصر، الذي توسعت في عهده التجارة، وخاصة تجارة الحرير الطبيعي الآتي من الصين، فكانت القيساريات تخدم التجارة وتنمية الاقتصاد، وقد استمر إنشاؤها حتى العصور الإسلامية، كي تمارس أدوارها في التجارة والصناعة، وأحياناً كسكن مؤقت لبعض العائلات الفقيرة".
وتابعت " القيساريات تقوم فكرتها على المنشآت التجارية أو الأسواق إلى جانب أكبر الجوامع في البلدات القديمة، حيث تكون بموقعها أنفق للبائع، وأرفق للمشتري، على حد تعبير البيطار، حينما يخرج المصلون من المسجد، وكان يقع مقابلها من الناحية الجنوبية منها (البيمارستان المنصوري)، وكلمة البيمارستان تعنى المستشفى".
وتبين البيمارستان تم تسميته في وقت لاحق خلال العصر العثماني (خان الزيت)، وتلك المباني قد اندثرت مع الزمن، لذا فإن موقع القيسارية بوسط البلدة القديمة في غزة، وبالقرب من الجامع الكبير، والبيمارستان، والحمام (حمام السمرة) ودار الإمارة (قصر الباشا) كلها تؤلف وحدة معمارية متكاملة تشكل عناصر تكوين المدينة الإسلامية.
وتؤكد رئيس قسم المواقع الأثرية أن عوامل التعرية الطبيعية والتدخلات البشرية في القيسارية إضافة إلى الإهمال قد ساهمت في اندثار الكثير من زخارفها، وهي بحاجة إلى إعادة ترميم.
وتبين بأنه كان يوجد عند كل بوابة للقيسارية من الناحية الشرقية والغربية، سلالم صغيرة تؤدي إلى طابق علوي فوقها، كان يحتوي على مجموعة من الدكاكين الصغيرة، وقد دُمرت جميعها، ولم يبق لها أثر، حيث كانت مأوى ومسكن لأصحاب الدكاكين داخل سوق القيسارية، وفيما بعد وخاصة خلال العصر العثماني، كان للقيسارية باب كبير يتم غلقه بعد غروب الشمس، وقد استمر ذلك الباب حتى بداية الخمسينات من القرن الماضي.