اقتحم راشد بيتَنا هائجًا. وكان اقتحامُ راشد بيتنا معتادًا، لا جديد في الأمر سوى هيجانه! فقد اعتدنا رؤية راشد "ينبت" بيننا فجأةً دون سابق إنذار، فلا يترك لأختي فرصةً لوضع حجابها على رأسها. وكان بيتنا من طابق واحد، مبنيًّا من أحجار الكدان القديمة في قلب الضيعة، بابُه مفتوح على الدوام، لا نقفله إلّا عند النوم، وهي عادةُ مَن يعيش في الضيعة. وكان الناس حولنا يعيشون مثلنا، وهم يفهمون ذلك ويقدّرونه، لذا يستأذنوننا بالدخول. أمّا راشد، فله حكايةٌ أخرى.
حين وصلني صوتُ راشد، كنتُ في غرفة أختي نحصي ما قرأناه مؤخّرًا من كتب، في سباقٍ غير معلن بيننا. هممتُ بالخروج مدفوعًا بفضولي الشديد إلى معرفة سبب هيجانه. لكنّ أختي حالت بيني وبين ذلك، وأقفلت البابَ بالمفتاح. كان راشد، في ثورة غضبه، يذكر اسمي مرارًا. وقد زادني ذلك فضولًا، وزاد أختي إصرارًا.
لم تفكّر، في هذه اللحظة، سوى في مدية راشد الدائمةِ اللمعان.
كان راشد ممّن تؤخذ الحكمةُ من أفواههم. يجوب الطرقَ منتقلًا من بلدةٍ إلى أخرى سيرًا على قدميه. يقتحم البيوتَ معزّيًا أو مهنّئًا؛ فلا يعوقه قرّ ولا حَرّ عن أداء واجب. يفتتح جولتَه في الصباح، ولا ينهيها إلّا عند حلول الظلام وقد قطع عشراتِ الكيلومترات. يرفض أيَّة دعوة تأتيه من قريبٍ أو غريبٍ لركوب سيّارته. رفاقه الدائمون في جولته تلك: عصًا يتوكّأ عليها، وراديو ترانزستور لا يفارق أذنَه اليسرى، ومديةٌ يلمع نصلُها كلّما ذكر أحدُهم زعيمَه السياسيَّ المفضَّل بسوء!
وأنا لم أكن قد ذكرتُ زعيمه بسوءٍ أو بخير. ولهذا، فقد أذهلني، وأصابني بالحيرة، أن أكون هدفًا لثورته.
ولكنّها حيرةٌ لم تدم طويلًا؛ فقد طرق أخي البابَ ودخل ليخبرنا الحكايةَ باسمًا. قال إنّ راشد ــــ لسببٍ ما ــــ يحمّلني "همَّ الدنيا"، ويتّهمني بالمسؤوليّة عن كلّ المصائب التي وقعتْ مؤخّرًا: وفاة أمّ أحمد عن نيّفٍ وخمسين عامًا، وإعلان مهنّد إلحادَه قبل أيَّام، وانقطاع التيّار الكهربائيّ عبر سرقتي للأسلاك النحاسيَّة بعد قطعها عن الشبكة العامَّة، وكتابة كلمات بذيئة على جدران المسجد والعبث بمحتوياته،... وقد ادّعى راشد أنَّه استقى معلوماته الخطيرة هذه من رؤيا راودته في نومه!
قال أخي إنَّه تحايل عليه مع أبي وعدد من الضيوف حتّى انتزعوا منه مديته، وعملوا على تهدئته، ثمّ تكفّل صحنُ الفاكهة على طاولة غرفة الجلوس بالباقي. وقال أخي إنّه ترك الرجل يلتهم الموزةَ الرابعة، بانهماك شديدٍ، كما لو كان يؤدّي مهمّةً خطيرة.
في هذه اللحظة، استيقظتُ من نومي منزعجًا. احتجتُ إلى بعض الوقت كي أتذكّر أنّ راشدًا توفّي منذ سنوات، وأنّنا انتقلنا من بيت الضيعة الذي هدمناه لنبني مكانه مجمّعًا تجاريًّا، وأنّني وإخوتي تزوّجنا جميعًا بعد ذلك وأقمنا في مساكن متباعدة، وأنّ أختي توقّفتْ عن القراءة وخرجتْ طائعةً من السباق، وأنّ ظاهرة الإلحاد اختفت أو تكاد، شأنها شأن الكتابة على جدران المسجد التي توقّفتْ بعد معرفة الفاعل. وحدها الكهرباء، من بين كلّ علامات الزمن الماضي، حافظتْ على غيابها المستمرّ، الذي تبيَّن أنّ الأسلاك المقطوعة ليست سببَه الوحيد.
الكهرباء الآن مقطوعة، والظلام يعمّ الغرفة. أمدّ يدي في الظلام كي أتأكّد من وجود زوجتي في مكانها، وأنَّها لم تذهب ــــ مرَّةً أخرى ــــ إلى منزل والديها، بعد عراكنا بالأمس على خلفيّة انشغالي الدائم في جمعيّة حقوق الإنسان التي انتسبتُ إليها مؤخّرًا.
أنفاسي تضيق حتّى أشارفَ على الاختناق. أفكّر في ضرورة إيجاد حلول سريعة لمشكلتي الخاصّة، ولمشاكل الكهرباء والإلحاد والحكومة التي تأخّر تشكيلُها كثيرًا. طبيبي يقول:
"أتابع منشوراتِكَ على فيسبوك بانتظام، وهي جميلة وتعجبني كثيرًا. لكنْ، لا يمكنك المواصلة على المنوال ذاته في حمل همّ الدنيا. قلبك ليس بخير. لا يمكنك خوضُ معارك كبرى على أكثر من جبهة، وأنت تكاد لا تستطيع خوض حرب استنزاف على جبهة واحدة. ليس أمامك يا عزيزي سوى رفع الراية البيضاء!"
تضيق أنفاسي أكثر، ويلمع في ذهني نصلُ مدية راشد، أقطعُ به زوائدَ المدينة كلحّامٍ ماهر.